د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس

في عام 1909م نشر الكاتب المصري القدير مصطفى كامل كتابا قيما أسماه "المسألة الشرقية"، وبسط فيه القول حول موضوع المسألة الشرقية والتي تعني عند البعض "مسألة النزاع المستمر بين النصرانية والإسلام"، أي مسألة الحروب الصليبية بين الدولة العثمانية وبين الدول المسيحية. بينما عرف آخرون المسألة الشرقية بأنها هي النزاع القائم بين بعض دول أوروبا وبين الدولة العثمانية بشأن البلاد  الواقعة تحت سلطانها، وبعبارة أخرى هي مسألة وجود الدولة العثمانية نفسها في أوروبا.    

وحذّر الكاتب في تلك الفترة، أي قبل انهيار الدّولة العثمانية بحوالي 15 عاما من أنّ جهود الدّول الأوروبية تصبّ باتجاه إضعاف الدّولة ثم تمزيقها وتقسيمها، وأنّ هذا المخطط ليس جديدًا بل تحدّث بشأنه السّاسة الأوروبّيون منذ أكثر من 120 عاما من ذلك التّاريخ. وقد تنبأ الكاتب بأن ثمة خطرا عظيما محدقا بكيان الدولة، ونبه إلى أن بعض الدول الأوروبية تظهر للدولة أنها متحالفة معها بينما هي في الخفاء تخطط للقضاء عليها "فلقد رأت هذه الدولة العثمانية ما لم تره دولة من دول الأرض القديمة والحديثة، فقد كانت تتحالف معها بعض الدول كالنمسا مثلا، وتعمل وهي متحالفة معها على الاتفاق مع الروسيا على تقسيمها".

كما أنّ إنكلترا كانت تتظاهر لها بالصداقة والوفاء، وتسعى وهي متظاهرة كذلك على ضياع أملاكها من يدها وسقوطها في قبضتها. وقد كانت دول أوروبا كلها تجتمع وتتفق على ما تسميه بالمبدأ المقدس، مبدأ أمن الدولة العلية وسلامتها، ثم كانت هي بعينها تقسم الدولة باسم هذا المبدأ المقدس نفسه. ولعل مؤتمر برلين المثال الأوضح على ذلك، إذ اتفقت الدول المجتمعة في ألمانيا سرّا على تقسيم أملاك الدولة وأراضيها دون علمها، بينما في العلن يظهرون لها علامات الصداقة والوفاء.

وقد نبه مصطفى كامل في كتابه إلى أن زوال الدولة العثمانية وتقسيمها "يكون مجلبةً للأخطار، أكبر الأخطار، ومُشعلا لنيران يمتدّ لهَبها بالأرض شرقًا وغربًا، شمالها وجنوبها. إنّ هدم هذه المملكة القائمة يكون داعيةً لثورة عامّة من المسلمين، وحربٍ دمويّة لا تعدّ بعدها الحروب الصليبيّة إلاّ معارك صبيانية" (ص. 16).  وقد حدث هذا بالفعل، ودخل العالم في فوضى أثناء الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية، راح ضحيتهما عشرات الملايين من الأرواح البريئة. وما زال العالم العربيّ اليوم يتلظّى من الحروب المستعرة في كلّ أرض من أراضيه.

تركيا اليوم تمثل جزء من تلك الدّولة التي غابت شمسها قبل أقل من 100 عام بقليل، وهي تسعى بما تملك من رصيد تاريخي وحضاري إلى النهوض من السبات الذي تعاني منه الأمة العربية والإسلامية. وهي الأمل المشرق وسط ظلام دامس من الإحباطات والكبوات التي لا تنتهي. تركيا اليوم تسعى لأخذ موقع متميز لها بين الكبار في العالم، وقد شدت إليها الأنظار بسبب القفزات التي تحققها في مجال السياسة والاقتصاد والثقافة والعلوم، بينما لم يكن أحد يُوليها أيّ اهتمام قبل سنوات قليلة من الآن.

لقد انتبه العالم إلى أن هناك دولةً مسلمة فتحت عينيها، ونفضت غبار السّنين عن وجهها، وانطلقت نحو المستقبل بكل ثقة؛ تريد أن تستقل بقرارها السّياسي والاقتصادي والعسكري وتتخلّص من التبعيّة التي عانت من ويلاتها طوال عقود طويلة. لكن تركيا بهذه المواصفات لن يرضى عنها الغرب المثقل بأحقاد الماضي، فالغرب يدرك جيدا نقاط التي قفزت بتركيا هذه القفزات الاستثنائية في زمن قصير، ولذلك نراه يقف صفا واحدا في وجه تركيا الجديدة الخارجة عن دائرة الطاعة، المتمرّدة على ذلّها القديم. لقد رأوا تركيا وهي تكتشف ذاتها وهويتها من جديد، ولم تعد كما عَهدوها مُذبذبة لا تعرف وجهتها الحقيقية.

لكل هذا نرى حلفاءها يتآمرون عليها، يتآمرون في الخفاء لكنهم في العلن يزعمون أنهم إلى جانبها، وأنهم حريصون عليها وعلى أمنها واستقرارها. لكن يبدو أن مشاعر الحقد فاضت في قلوب أصحابها، وطفت على ألسنتهم ولم يعد بمقدورهم كضمها. قبل أيام صرح السيناتور الأمريكي ميشيل روبين بأن جهات سياسية عليا في أمريكا على استعداد للاعتراف بأيّ انقلاب يستطيع الإطاحة بالرّئيس التركي رجب طيب أردوغان مهمّا كلّف الأمر.           

والحقيقة أن هذا التّصريح ليس مفاجئاً، سواء صدر من مسؤول أمريكي أو حتّى من مسؤولين أوروبّيين، فالتّطورات التي حدثت خلال السّنوات القليلة الماضية تؤكّد أنّ "تركيا الجديدة" تقضّ مضاجع الغربيّين، والحرب في سوريا كشفت عن حقائق كثيرة كانت مستورة. ومن الأسئلة التي تتبادر إلى الذّهن؛ لماذا يصرّ الغرب على اتهام الحكومة التركيّة بكونها تسعى إلى أسلمة الشّعب؟ لماذا يدعم الغرب حركات الانفصال الكردية ويرفض اتهام حركات ضالعة في القتل بكونها حركات إرهابية، بل ويقدّم لها الدعم؟ لماذا رفضت الدّول الغربية، وخصوصا الولايات المتّحدة الأمريكيّة دعم تركيا في خلافها مع روسيا رغم الانتهاكات الرّوسية المتكرّرة لأراضيها؟ لماذا تتوالى التّصريحات المندّدة بالحكومة التّركية واتهامها بمصادرة الحرّيات وتكميم الأفواه، بينما لم تحرّك ساكنا إزاء ما تتعرّض له من عمليّات إرهابيّة داخل أراضيها؟

الجواب على كل هذه الأسئلة أصبح جليّا، فلن يرضى الغرب عن تركيا بما أنّها أمسكت بمفاتيح التّقدم، وفتحت لنفسها آفاقا رحبة بعيدًا عن التّبعية والتزلّف، وما دامت تخلصت من ربقة التخلف وأصبحت تمثل النّموذج لدولة إسلامية ناجحة، دولة تمكّنت من بناء تقدّمها على أسس حضارية متكاملة تجمع بين ما هو مادي وما هو قيمي. وهذا ما لا يملكه الغرب ولا يستطيع بخصائصه الحالية.

عن الكاتب

د. مصطفى الستيتي

باحث متخصص في التاريخ العثماني.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس