د. زبير خلف الله - خاص ترك برس

تشهد العلاقات السعودية التركية في الآونة الأخيرة تطورا كبيرا وصل إلى درجة تشكيل محور جيوستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط، وبات الطرفان يشكلان توازنا جديدا ضمن التوازنات الموجودة في المنطقة إلى درجة أن هناك من الغربيين من رأى أن هذا التقارب سيشكل في المستقبل أكبر خطر يهدد التواجد الغربي في المنطقة، وربما يتحول هذا التقارب إلى أرضية تدفع نحو تحالف إسلامي يمهد لظهور قوة إسلامية مؤثرة في مستقبل التوازات الإقليمية والدولية في المرحلة القادمة.

هذا التقارب السعودي التركي يجعلنا نتساءل عن ماهيته وعن أهدافه وآلياته؟ وهل تجاوز الطرفان خلافات الماضي القديم الملتبس بالصراع بين الدولة العثمانية والدولة السعودية أو ما يعرف في كتب التاريخ بالصراع الوهابي العثماني؟

1- تجاوز خلافات الماضي وفتح صفحة جديدة

لا شك أن القرنين 18م و19م شهدا تصادما كبيرا بين الدولة العثمانية وبين الدولة السعودية الأولى والثانية التي تحالفت مع الدعوة الوهابية، وتطور التوتر بين الطرفين إلى حالة حرب استمرت إلى حدود سنة 1926 تاريخ تأسيس الدولة السعودية الثالثة وفي وقت انتهت فيه الدولة العثمانية وتأسست محلها الجمهورية التركية بقيادة كمال أتاتورك.

وقد شكل الخلاف العثماني السعودي في تلك الفترة قطيعة كبيرة بين الطرفين، وارتسم بصورة سيئة في المخيال الجمعي لدى المواطنين السعوديين والمواطنين العثمانيين، وأثر سلبيا على مسار العلاقات بينهما حتى في مرحلة الجمهورية التركية بسبب جملة الأحكام المسبقة والنظرة الخاطئة لكل واحد منهما تجاه الاخر مما فوت عليهما فرص التقارب والاستفادة من بعضهما البعض نحو إعادة صياغة علاقة جديدة لدولتين مسلمتين يجمع بينهما مشتركات حضارية ودينية أكثر مما يفرقهما.

لقد فشلت حكومات الجمهورية التركية المتعاقبة وكذلك حكومات المملكة السعودية المتعاقبة في ردم الهوة العميقة التي تشكلت بين البلدين غذته أحكام مسبقة مغلوطة ساهمت فيه بدرجة أكبر عدة قوى دولية وإقليمية حتى لا يحدث أي تقارب بينهما قد يؤثر في طبيعة التوازنات في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم الإسلامي.

وقد عمدت هذه القوى إلى استثمار مسألة الصراع العثماني السعودي لتعميق هذه الهوة بين السعودية وتركيا حتى تحافظ على مصالحها الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط، وحتى يظل كلا الطرفين في عداء تاريخي وربما قطيعة دائمة تضمن عدم ظهور أي تحالف إقليمي تركي سعودي وربما عربي إسلامي يواجه المخططات الغربية في منطقة الشرق الأوسط وفي العالم الإسلامي.

لقد أخطأ الأجداد سواء كانوا من العثمانيين أو السعوديين في القبول بالتصادم والقطيعة بينهما، وأعطوا الفرصة إلى القوى الاستعمار في تمزيق العالم الإسلامي. لم يدرك الأجداد في تلك الفترة أن الدولة العثمانية والدولة السعودية كانتا مستهدفتين باعتبارهما كانا يمثلان عمقا حيويا وديناميكا في استيقاظ أمة أراد لها أعداؤها أن تبقى تحت وطأة الانقسامات والفتن والاحتراب.

لقد أدرك الأحفاد الاتراك والأحفاد السعوديون هذا الخطأ الفادح الذي ارتكبه أجدادهم حينما رأوا أن المنطقة العربية والإسلامية تتعرضان إلى مشاريع استعمارية تستهدف تقسيمها وتعميق حالة الاحتراب والتشرذم. وبدأت تظهر رغبة كبيرة لدى الأحفاد في التقارب بين الطرفين خصوصا بعد تأزم الأوضاع أكثر في سوريا وانعكاساتها سلبا على مصير منطقة الشرق الأوسط ودخول عدة قوى دولية في الأزمة نحو تعميق الأزمة وتقسيم المنطقة وصياغة سايكس بيكو جديدة.

لقد تجاوز الأحفاد عقدة خلافات الأجداد، وسعوا في تقاربهما إلى ردم تلك الهوة العميقة التاريخية، وسعوا إلى تقارب تحول في المرحلة الراهنة إلى تحالف استراتيجي وتعاون اقتصادي وسياسي شكل منهما محورا اسرتاتيجيا في المنطقة سيلعب دورا بارزا في طبيعة التوازنات في المرحلة القادمة.

2- ماهية التقارب السعودي التركي:

لا يمكن أن نقرأ ماهية التقارب السعودي التركي في إطاره العسكري والاقتصادي فقط بل علينا أن نضعها في سياق وعي جديد   وعقلية انفتاحية جديدة ولدت في تركيا وفي السعودية بضرورة التقارب على كافة المستويات، وأنه حان الوقت لكي يتطور هذا التقارب إلى تحالف استراتيجي في خطوة أولى نحو تشكيل ما يسمى بالتحالف الإسلامي الشامل، وربما تشكيل كيان موحد يحمي الأمة الإسلامية من أي تهديد خارجي يستهدف المنطقة العربية والإسلامية في أمنها واستقرارها.

لقد عرفت تركيا منذ مجيء حزب العدالة والتنمية إلى السلطة سنة 2002 سياسة انفتاحية على محيطها العربي بعد غياب طويل دام عقودا. وقد نظر صناع القرار في السعودية إلى هذه العودة التركية إلى المنطقة العربية بشيء من التوجس رغم الترحيب بها ظاهريا، وربما يعود هذا إلى الخلفية التاريخية التي كانت لدى السعودية. لكن التقارب الآن استطاع أن يزيل هذه المخاوف، وقد تحلا الطرفان بقدرة كبيرة على تجاوز مثل هذه الخلافات وبناء تحالف مبني على الثقة والمشتركات الثقافية والدينية وكذلك المصالح المشتركة وتوحيد الرؤية الاستراتيجية للدفاع عن العالم الإسلامي.

إن ماهية هذا التقارب فسرته طبيعة الوعي الانفتاحي الجديد لدى الأتراك والسعوديين في الآن نفسه، كذلك اقتضته ظروف إقليمية ودولية في منطقة الشرق الأوسط أقنعت الطرفان بضرورة التقارب وحماية المنطقة من أي تهديد قد يمس أمن الطرفين، كما نجد أن التمدد المشروع الإيراني في المنطقة سواء في سوريا أو في لبنان أو في اليمن جعل السعودية وتركيا يشتركان في نفس الرؤية التي كانت عنصرا مهما للتقارب بينهما وتحويل هذا التقارب إلى تحالف استراتيجي في منطقة الشرق الأوسط.

لعل ما شاهدناه البارحة في قمة التعاون الإسلامي المنعقدة في إسطنبول أن هناك اهتماما تركيا كبيرا بالسعودية وفي شحص الملك سلمان بن عبد العزيز، وكذلك جكلة الاتفاقيات التي تم الاتفاق عليها بين الطرفين يدلل على أن هذا التقارب بات يتطور شيئا فشيئا وينتقل من حالة التعاون العابر إلى حالة التحالف ورسم خطط استراتيجية موحدة في المستقبل.

3- آليات التقارب السعودي التركي:

لعل من أهم آليات هذا التقارب تتمثل فيما يلي:

أ‌- العقلية الانفتاحية والوعي المشترك بضرورة التقارب بين الطرفين وتجاوز خلافات الماضي وردم الهوة العميقة بينهما على اعتبار أن هذا التقارب سيكون خطوة كبرى نحو انضمام دول عربة وإسلامية أخرى.

ب‌- تفعيل مسألة التعاون الاقتصادي والسعي إلى تشكيل مجلس تعاون إسلامي أو تأسيس سوق إسلامية مشتركة تلعب فيها تركيا والسعودية دورا مهما لإحداث تنمية ونهضة اقتصادية في المنطقة تساهم في خلق مناخات توحيدية لكافة الدول الإسلامية وتحمي كل الشعوب الإسلامية من حالة الفقر والظلم والتهميش الموجودة في العالم الإسلامي.

ت‌- بناء قوة عسكرية مشتركة والسعي نحو تشكيل مجلس الأمن الإسلامي الذي يكون بمثابة قوة ردع ودفاع عن الأمة الإسلامية إذا تعرضت إلى مخاطر، ولعل مشروع التحالف الإسلامي الذي دعت إليه السعودية وانضمت إليه تركيا يمثل خطوة أولى نحو إنضاج فكرة مجلس الأمن الإسلامي.

ث‌- تعميق التعاون الثقافي بين البلدين وترسيخ ثقافة التواصل بين كافة الشعوب الإسلامية، وهذا لن يكون إلا إذا تم تشكيل مراكز ثقافية تركية وسعودية في كلا البلدين وتعميق ثقافة الحوار بين الشعوب الإسلامية على اختلاف عرقياتها وثقافاتها، وردم المسافة القائمة بينهما والتركيز على جملة المشتركات الموجودة بينهما.

ج‌- تحقيق نظام سياسي ديمقراطي يعيش فيه كل إنسان ينتمي إلى هذه المنطقة بحرية بكرامة ويختار من يحكمه عبر وسائل سياسية وديمقراطية تكفل له الحق في التعبير عن رأيه بكل حرية ودون أن يتعرض إلى أي قهر أو ظلم أو استبداد.

ح‌- الوقوف معا نحو الدفاع عن قضايا الشعوب المسلمة التي تئن وطأة الظلم والاحتلال سواء كان في فلسطين أو ميانمار أو في مصر أو في أي دولة في العالم.

خ‌-  التدخل لإنهاء كل النزاعات القائمة بين أبناء الامة في العالم الإسلامي والإصلاح بينهم.

د‌- القيام بإصلاحات حقيقية في المنظومة التعليمية بشكل يسمح بإنشاء أجيال تتمتع بالفاعلية وبالقدرة على الإبداع وقادر على قيادة الأمة حضاريا. لأن التعليم يمثل هو أساس أي مشروع حضاري ناجح وفعال.

4- أهداف هذا التقارب:

يعمل هذا التقارب السعودي على جملة من الأهداف ستنتقل فيما بعد من دائرة البلدين إلى فضاء إسلامي أوسع وربما عالمي، وتتمثل هذه الأهداف في:

أ‌- تقارب يفضي فيما بعد إلى توحيد كافة الدول الإسلامية.

ب‌- تحقيق نهضة اقتصادية متقدمة لهذه الدول الإسلامية والقضاء على الفقر في كافة العالم الإسلامي.

ت‌- الدفاع عن أمن العالم الإسلامي واستقراره والقضاء على الإرهاب الداخلي والخارجي.

ث‌- حماية العالم الإسلامي من أي انقسام أو محاولة للهيمنة عليه من أي قوة دولية في العالم.

ج‌-   تحرير كل الأراضي الإسلامية المحتلة وفي مقدمتها فلسطين المحتلة والقدس الشريف.

ح‌- تعميق وعي إسلامي جديد متمسك بهويته القومية والإسلامية ومنفتح عن التجارب العالمية المعاصرة.

خ‌- المساهمة في خلق وعي حضاري جديد بما يساهم في ولادة حضارية متقدمة للأمة الإسلامية.

خلاصة القول إن التقارب السعودي التركي لا ينظر إليه على أنه وصل إلى درجة الكمال بالعكس فهو ما زال في مرحلة جنينية يحتاج إلى مزيد من الوعي ومزيد من الانفتاح وإشراك عدة قوى إسلامية أخرى وكذلك إشراك الشعوب نحو صياغة مشروع حضاري إسلامي شامل تتقارب فيه الشعوب الإسلامية مع بعضها، وتساهم في بناء دورتها الحضارية القادمة، وتقف سدا منيعا أمام التهديدات التي تعصف الآن بأمتنا. ولعل قمة التعاون الإسلامي المنعقدة في إسطنبول البارحة تشكل أولى اللبنات لتفعيل مثل هذا المشروع الحضاري الذي يؤمن به كل أبناء الأمة الإسلامية، فهل سينتقل هذا التقارب إلى تحالف حقيقي على كافة المستويات أم أنه يظل منحصرا في بعده المصلحي فقط؟

عن الكاتب

د. زبير خلف الله

كاتب - المركز العربي التركي للتفكير الحضاري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس