صالح عيّاد – خاص ترك برس

وصلت قضية "شاحنات المخابرات التركية" يوم الجمعة إلى المرحلة النهائية في أروقة القضاء التركي بالحكم على صحفيين من صحيفة "جمهورييت" المعارضة بالسجن لكل منهما بعد إدانتهما "بإفشاء أسرار الدولة". حكم قضائي لن يمر دون ضجة داخلية وخارجية كما هي القضية التي بدأت فصولها بداية عام 2014.

بداية الحكاية

منذ اندلاع ثورة الشعب السوري ضد نظام الأسد عام 2011، وتحول هذه الثورة إلى حرب شاملة شنها النظام على الشعب وفصائله المعارضة، دخلت تركيا إلى مربع المحاور وأعلنت صراحة وقوفها مع مطالب الحرية للشعب السوري، وتحول هذا الموقف السياسي والإعلامي الداعم إلى الفعل على الأرض باستقبال أولى موجات اللجوء عام 2012، واستقبالها للمعارضة السياسة ومؤسساتها لتصبح الأراضي التركية قاعدة سياسية وشعبية للثورة.

ومع تطور الأحداث وظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسوريا عام 2013، استغل النظام السوري التنظيم في ترويج فكرة محاربة الإرهاب أمام العالم لقمع الثورة والمعارضة السورية، ومن ثم وجه سهامه لتركيا متهما إياها بدعم التنظيم "الإرهابي"، وبدأت الدعاية الروسية الحليفة لنظام الأسد ترويج ذلك عالميا، وذلك في محاولة للنيل من دعم الدولة التركية للثورة السورية واستغلال اتفاق القوى العالمية على عداء تنظيم الدولة.

وفي ظل محاولة الحكومة التركية التأكيد على محاربتها لتنظيم الدولة "الإرهابي" ونفي الاتهامات لها بدعم التنظيم وتوفير المساعدات له، تفجرت قضية "شاحنات المخابرات" عام 2014، والتي استغلها النظام السوري وحلفاؤه للنيل من تركيا لإلصاق تهمة دعم "المنظمات الإرهابية" في سوريا.

"شاحنات المخابرات" والتنظيم الموازي

يعد تاريخ  17 إلى 25 من شهر كانون الأول/ ديسمبر عام 2013 مرحلة فاصلة في التحالف بين جماعة الخدمة أو ما يعرف بـ"بجماعة غولن" بزعامة الداعية فتح الله غولن المقيم في أمريكا وبين الحكومة التركية وحزب العدالة والتنمية، وذلك على خلفية ما تسميه الحكومة بمحاولة "الانقلاب القضائي" التي قادتها الجماعة المتنفذة في جهازي القضاء والشرطة، بهدف إسقاط حكم العدالة والتنمية عن طريق "فبركة ملفات فساد ضد وزراء ومقربين من رئيس الوزراء آنذاك رجب طيب أردوغان، وشن حملة اعتقالات متزامنة ضد رموز سياسية ومالية".

وبعد أقل من شهر من تلك الليلة الفاصلة، وقع حدث آخر ارتبط بمحاولة "الانقلاب" التي تدعمها جماعة الخدمة، وذلك في 19 من شهر كانون الثاني/ يناير عام 2014، عندما أوقف جهاز الشرطة في محافظة "هاتاي" جنوب شرق تركيا بالقرب من الحدود السورية ثلاث شاحنات تابعة للمخابرات التركية تحمل مساعدات للتركمان في منطقة "بايربوجاق" في سوريا. وبالرغم من أن هذه الشاحنات محمية من عناصر المخابرات، إلا أن دوريات الشرطة أصرت على تفتيش الشاحنات حتى وصل الأمر إلى احتمال وقوع اشتباك مسلح بين عناصر المخابرات والشرطة، ليتمكن عناصر الشرطة  في النهايةمن تفتيش الشاحنات التي قالت الحكومة في حينه أنها تحمل مساعدات طبية.

وتضاربت الأنباء حول حمولة الشاحنات، قبل أن يقرر القضاء التركي حظر النشر في القضية لارتباطها بـ"الأمن القومي"، وإعلانها سرا من أسرار الدولة، وتم فتح تحقيق قضائي في ظروف إيقاف الشاحنات واستصدار أمر التفتيش دون إعلام المؤسسات المختصة، واتهمت الحكومة في حينه جماعة الخدمة بتدبير القضية.

إلا أن صحيفة "جمهوريات" المعروفة بمعارضتها الصارخة للحكومة لم تلتزم بالقرار القضائي ونشرت مقطعا مصورا لما قيل إنها لحظات تفتيش عناصر الشرطة للشاحنات الثلاث، وظهرت مشاهد لما قيل إنها ذخائر حربية وقذائف صاروخية مخبأة بين المساعدات الطبية، وأعلنت الصحيفة أنها لن تلتزم بقرار حظر النشر، ونشرت العديد من التقارير حول القضية. وأشارت إلى أن هذه الأسلحة متوجهة إلى التنظيمات "الإرهابية" في سوريا وعلى رأسها تنظيم الدولة.

قضية تجسس

ومنذ اللحظة الأولى أعلنت الحكومة التركية فيها أن هذه القضية هي قضية أمن قومي ونشر مثل هذه التقارير والصور هو "انتهاك للأمن القومي"، وقرر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رفع قضية ضد الصحيفة ورئيس تحريرها الصحفي "جان دوندار"، ووفقا لقانون مكافحة الإرهاب في تركيا قرر المدعي العام في إسطنبول يوم 26 تشرين ثاني/ نوفمبر عام 2015 اعتقال الصحفي دوندار وممثل الصحيفة في مدينة أنقرة "إردم غول"، وتم إيداعهما في السجن.

وبعد 92 يوما من الاعتقال قررت المحكمة العليا إخلاء سبيل الصحفيين، بداعي "التعدي على حقوقهم الشخصية"، إلى أن الرئيس التركي واجه القرار وصرح بأنه لن يحترم قرار المحكمة، لأن هذه قضية تجسس وانتهاك للأمن القومي. فيما استمرت محاكمة الصحفيين في القصر العدلي بإسطنبول على ذمة القضية. واستمر معها الجدل حول التدخلات الخارجية في القضية، وذلك بسبب حضور عدد من القناصل الأجانب للجلسات المحكمة والإعلان صراحة عن دعم موقف الصحفيين، مما دفع أردوغان لانتقاد هذه التصرفات، وشن حملة على هذه التدخلات.

وأضاف أردوغان أن تلك الشاحنات كانت تحمل المساعدات لتركمان سوريا، وأشار ضمنيا إلى أن تلك الشاحنات كانت تحمل أسلحة بالفعل، وكان الهدف منها دعم التركمان الذي يواجهون التهجير والقتل من قبل النظام السوري والتنظيمات الكردية في شمال سوريا، مؤكدا ان تركيا لن تتخلى عنهم.

حكم قضائي بالسجن

وبعد نحو 17 شهرا من إيقاف الشاحنات أصدر القضاء التركي يوم الجمعة 6 أيار/ مايو الجاري حكمًا بالسجن لمدة 5 سنوات و10 أشهر، بحق الصحفي "جان دوندار" رئيس تحرير صحيفة جمهوريات، ولمدة 5 سنوات، بحق زميله "أردم غل"، ممثل الصحيفة بأنقرة، بعد إدانتهما "بإفشاء أسرار الدولة".

وقبل ساعات من إقرار هذا الحكم تعرض الصحفي دوندار لمحاولة اغتيال أمام القصر العدلي، لم تسفر عن إصابته واعتقل المنفذ والذي بدا عليه أنه غير محترف لسهولة إلقاء القبض عليه.

وخلال الأشهر الماضية شهدت القضة تفاعلات محلية ودولية، بين مندد بمحاكمة صحفيين بحجة قمع الحريات ووسائل الإعلام، وبين من يرى ان الصحيفة ساهمت في تشويه صورة تركيا وتعزيز الدعاية الروسية التي تتهمها بدعم الإرهاب في سوريا. وخصوصا في ظل تصاعد المواجهات المسلحة في جنوب شرق تركيا بين الأمن التركي والانفصاليين الأكراد، وتصاعد المخاطر المنية على الحدود مع سوريا.

من جانبها ترى تركيا أنها تواجه تحديات أمنية كبيرة، تحاول مواجهتها عن طريق قوانين مكافحة الإرهاب، والتي يتمسك الرئيس التركي بها، وأعلن صراحة يوم الجمعة قبل ساعات من الحكم القضائي أنه لن يتم تغيير هذه القوانين كثمن لدخول الاتحاد الأوروبي أو الحصول على إعفاء الفيزا للمواطنين الأتراك.

عن الكاتب

صالح عيّاد

صحفي عربي مقيم في تركيا


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس