محمود عثمان - خاص ترك برس

أثارت تصريحات الرئيس رجب طيب أردوغان الأخيرة بخصوص منح السوريين الجنسية التركية ردود فعل واسعة داخل تركيا وخارجها. فقد اعتبرها البعض خطوة تاريخية هامة من شأنها قلب المعادلة، وتغيير البنية الديمغرافية للمنطقة، بينما رآها آخرون مجرد خطوة تكتيكية، هدفها ذر الرماد في العيون من أجل التغطية على تنازلات كبيرة ستقدمها تركيا في المسألة السورية، أبرزها القبول ببقاء بشار الأسد خلال الفترة الانتقالية، الأمر الذي كانت تعتبره تركيا خطا أحمر.

أيا كان الأمر فلا بد من فهم تلك التصريحات من خلال حيثياتها من حيث التوقيت الذي أعقب تقارب تركيا مع كل من روسيا وإسرائيل، واستحقاقات ذلك التقارب وانعكاساته على صعيد المعطيات الداخلية والخارجية. حيث يمكننا قراءة تلك التصريحات من خلال العناوين الرئيسية التالية:

أولا: تصريح أردوغان بخصوص منح السوريين الجنسية التركية

في مأدبة إفطار رمضانية في مدينة كيليس الحدودية حضرها سوريون وأتراك تناول الرئيس أردوغان ما قدمت تركيا من دعم للشعب السوري في محنته التي يعاني منها، وأضاف قائلا: "أنا متأكد من وجود إخوة سوريين يرغبون بالحصول على الجنسية التركية، وقد اتخذت وزارة الداخلية إجراءات في هذا الموضوع، وستبذل ما تستطيع لتسهيل تلك الاجراءات، من خلال مكتب ستخصصه من أجل مساعدة اخوتنا السوريين ، وتقديم الدعم اللازم لهم من أجل حصولهم على الجنسية التركية".

ثانيًا: كيف فهم السوريون تصريحات أردوغان

"صاحب الحاجة أرعن" كما يقال، فما إن سمع السوريون تصريح الرئيس أردوغان حول عزم الحكومة منحهم الجنسية التركية، والذي تناقلته وسائل الإعلام على نطاق واسع كخبر رئيسي، حتى بدؤوا بالسؤال والبحث عن طريقة الحصول عليها.

هناك ما يزيد على خمسة ملايين سوري يعانون من مشكلة الوثائق وجوازات السفر، حيث جواز السفر من أهم وسائل نظام الأسد في الضغط على السوريين وابتزازهم وإذلالهم، وقد تفاقمت معاناة السوريين عقب إغلاق غالبية الدول أبوابها أمامهم، وزاد الطين بلة عودة تركيا لتطبيق نظام الفيزا بحقهم. وبغض النظر عن حيثيات الموضوع وحاجة تركيا أو اضطرارها لمثل هذا الإجراء، فقد قيدت حركة السوريين وتضررت مصالحهم، حيث أخبرني كثير من رجال الأعمال بأنهم عزفوا عن السفر لبعض البلدان – رغم حاجتهم للسفر اليها - لأن دخولها يستهلك من جواز سفرهم أكثر من صفحة!.

من الطبيعي جدا أن يسعى هؤلاء المحتاجون للحصول على جواز سفر يمنحهم حرية الحركة، ويسهل أمورهم ويقضي حوائجهم ويلبي مصالحهم. ومن الطبيعي أيضًا أن يعلقوا الآمال العريضة على الحكومة التركية بأن تبادر للوفاء بما وعد به الرئيس أردوغان.

لكن في الجهة المقابلة... هل بمقدور تركيا منح جميع السوريين المقيمين على أراضيها الجنسية التركية؟! جواب المسؤولين: لا. معنى ذلك أن هناك عملية فرز وانتقاء واختيار، فعلى أي أساس سيتم ذلك الاختيار؟ وهل سيكون هناك استثناءات؟ وها سيقتصر منح الجنسية التركية للسوريين المقيمين في تركيا فقط، أم سيشمل جميع من يرغب من السوريين في جميع البلدان؟ وهل يشمل الأمر السوريين داخل سورية نفسها؟

أسئلة واستفسارات كثيرة، من واجب حكومة العدالة والتنمية برئاسة بن علي يلدرم الإجابة عليها بأسرع وقت ممكن.

ثالثًا: محددات منح الجنسية التركية للسوريين

لا بد من الإشارة إلى أنّ القوانين التركية تعطي الحق لكل من أقام في تركيا لمدة 5 سنوات دون انقطاع بتقديم طلب الحصول على الجنسية، لكن هل سيعتبر اللاجئون - سموا ضيوفا - الذين قدموا إلى تركيا عام 2011، قد حققوا هذا الشرط؟.

صحيح أن أردوغان أكد في تصريحاته على أنّ من حق الجميع التقدم بطلب الحصول على الجنسية، وأنّ المساواة التامة بغض النظر عن الدين واللغة والعرق والمذهب هو ما يليق بتركيا. لكن الترجمة الفعلية لتصريحاته لن تكون سهلة، وسوف تواجه الكثير من المصاعب والعراقيل، حيث البيروقراطية في تركيا معقدة، كما أن القوانين السارية تحتم دراسة جميع الطلبات من جوانب عدة، أهمها البحث والتحري الأمني، وسيكون القرار الأخير لوزارة الداخلية، وربما يكون هناك بعض الاستثناءات.

البعض يشير إلى حزمة من التسهيلات يمكن إقرارها من خلال قانون يخفض المدة إلى ثلاث سنوات بدل خمس. وبعض التسهيلات الأخرى التي من شأنها اختصار الوقت وتقليل بعض الإجراءات.

هناك شبه إجماع على أن العدد سوف يكون محدودًا وخاضعًا لعملية الفرز والاختيار وفق المعطيات التي تخدم مصالح تركيا.

رابعا: كيف وظفت المعارضة التركية تصريحات أردوغان سياسيًا

من الطبيعي جدًا أن تستخدم المعارضة نقاط الضعف وحتى الهفوات لدى حزب السلطة غريمها السياسي، وأن تتحين الفرص، وتقتنص التصريحات من أجل إحراج الخصم، وتسجيل الأهداف في مرماه.

وقد استخدمت أحزاب المعارضة التركية على مدار السنوات الست الماضية قضية اللاجئين السوريين والقضية السورية عموما كخاصرة رخوة هاجمت من خلالها حكومات حزب العدالة والتنمية المتعاقبة، كما استغلت حالة الانكفاء والانكماش والتردد التي عانت منها السياسة الخارجية التركية عقب إسقاط الطائرة الروسية.

كان من الأحرى أن تبقى القضية السورية بعيدة عن التجاذبات والمناكفات  بين الخصوم السياسيين، وكان من الأولى أن يتم تحييدها عن السياسة الداخلية التركية. لكن للأسف كانت حاضرة بقوة في جميع الاستحقاقات السياسية من انتخابات وغيرها.

وقد ساهم الرئيس أردوغان من خلال طرحه مسألة منح السوريين الجنسية التركية في تحويل القضية السورية من بعدها الإنساني الذي يتعاطف معه الجميع - أو هكذا يتظاهر بعضهم – إلى بعد سياسي يفتح الباب واسعًا أمام الاصطفاف والاختلاف بالرأي.

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن أحزاب المعارضة لم تتوقف عن طرح مسألة منح الجنسية للسوريين منذ دخول اللاجئين لتركيا، فقامت بنشر الاشاعات التي تقول بأنّ اللاجئين السوريين يصوتون في الانتخابات من خلال هويات مزورة، لكن طرف الحكومة كان في كل مرة ينجح في دحض تلك الادعاءات الكاذبة التي لا دليل على صحتها، ويعيد التركيز على الجانب الإنساني للقضية السورية.

ما تشهده الساحة السياسية التركية هذه الأيام من ارتفاع وتيرة وحدة حالة الاستقطاب إلى درجة خطيرة , تجعل كل مسألة مطروحة قضية تهدد الأمن القومي التركي... المعارضة التي خسرت جميع الجولات الانتخابية أمام حزب العدالة والتنمية، وفشلت في لي ذراعه بالوسائل السياسية المعتادة، بدأت تتوسل طرائق أخرى غير اعتيادية وبدعم دولي لا محدود، وقد شكلت أحداث "غيزي بارك" نقطة البداية لهذا النوع من التعاطي السياسي من طرف المعارضة... وللتذكير فقط فإن أحداث "غيزي بارك" بدأت كاحتجاج على قطع بعض الأشجار اقتضه عملية إعادة تنظيم ميدان "تقسيم" الشهير. لكن بعض القوى من داخل تركيا وخارجها بذلت جهودًا مضنية لتحويل هذا الاحتجاج إلى حراك شعبي على غرار ميدان التحرير في مصر هدفه إنزال الجماهير للشارع، من أجل خلق أجواء مشابهة لتلك التي سبقت الانقلابات العسكرية في تركيا، غير أن هذه المحاولة باءت بالفشل رغم الدعم الخارجي المكشوف، فعلى سبيل المثال لا الحصر، قامت شبكة تلفزيونات سي إن إن انترناشيونال بنقل وقائع أحداث "غيزي بارك" لمدة ثماني ساعات بثًا مباشرًا على ما في ذلك من كلفة باهظة.

ولا تزال القوى عينها ماضية بنفس الأساليب، حيث قامت في الآونة الأخيرة بتحريك قطاع طلاب المرحلة الثانوية، بعد فشلها في تحريك طلاب الجامعات.

القوى ذاتها استغلت هذه المرة تصريحات أردوغان بخصوص منح السوريين الجنسية التركية، لتقوم بالتأليب عليهم، وتشكيل رأي عام ضدهم، بتصويرهم خطرا داهمًا يهدد تركيا وبنيتها الاجتماعية وأمنها الاستراتيجي.

وقد بدأت منذ أيام حملة على وسائل التواصل الاجتماعي تدعو لطرد السوريين من تركيا، وهناك جهود تبذل لتنظيم مظاهرة احتجاجية – غالبا ما تكون غير مرخصة - في إحدى مناطق إسطنبول، ربما منطقة "أفجيلار"...  لكن جميع هذه التحركات لا رصيد لها عند المواطن التركي، ولا قيمة لها على أرض الواقع، وما هي سوى انعكاس لحالة الاستقطاب الحاصلة في تركيا، حيث لا نرى مانعاً لدى مؤيدي أردوغان وحزب العدالة والتنمية من منح السوريين الجنسية وحقوق المواطنة، بل يعتبرون  ذلك أمرا طبيعيًا وواجبا على تركيا فعله، بينما يراها مؤيدو المعارضة خطرًا كبيرًا محدقًا بتركيا. بينما هدفهم الأساس هو النيل من أردوغان وحكومة العدالة والتنمية.

وليس من نافلة القول أن غالبية سكان تركيا ومدينة إسطنبول على وجه الخصوص، ما هم إلا مهاجرون أو مهجّرون قصدوها منذ سنوات معدودة ليست بالبعيدة، منهم من أتى من البلقان، ومنهم من القوقاز، ومنهم من جورجيا وأذربيجان، ومنهم من إيران وشمال أفريقيا.

لكن رغم كل ذلك يجب التعامل مع الأمر بواقعية، إذ لا يمكن إغفال حقيقة تخوف قطاع عريض من المواطنين الأتراك من مسألة منح السوريين الجنسية التركية، وهنا يتوجب على الحكومة التركية بذل المزيد من الجهد والوقت من أجل إقناع المواطن التركي العادي غير (المؤدلج) بأن نطاق العملية محدود، وأنها لن تؤثر سلبًا على تركيا، بل ستزيدها قوةً وتأثيرًا، وستمنحها بعدًا تاريخيًا وحضاريًا.

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس