سحبان مشوح - خاص ترك برس

يطرح التدخل التركي في الأراضي السورية سؤالا مشروعا عن حدوده وأسبابه وتداعياته، خصوصا وأنه جاء في السنة السادسة من عمر الثورة السورية، كما أنه جاء بعد تغير صريح في السياسة التركية وانقلاب فاشل كاد يودي بمكتسبات حزب العدالة والتنمية الحاكم على مدار أربعة عشر عاما، إضافة إلى ما حملته التغيرات الدولية والإقليمية من آثار وتداعيات على الميدان السوري.

نطاق العمليات التركية داخل الأراضي السورية مرتبط أولا بقدرة تركيا على المناورة مع الولايات المتحدة الأمريكية بشأن عدد من الملفات؛ من أبرزها ملف تسليم فتح الله غولن، وتبعات ملف الانقلاب الفاشل الذي أظهرت الصحافة التركية تورطًا أمريكيا واسعًا فيه، وأخيرًا العلاقة المرمّمة مع روسيا على حساب العلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية ضمن حلف شمال الأطلسي "الناتو".

ومرتبط ثانيا بالمقايضة الروسية التركية في الملف السوري، وفي هذه النقطة تفصيلات معقدة، تحيل على الأسباب الحقيقية للاستدارة المفاجئة في السياسة الخارجية التركية، مع كل من موسكو وطهران و"تل أبيب"، والتي يشكل الجانب الاقتصادي "المؤثر في النفوذ" لجميع الأطراف؛ النسبة الأكبر فيها، إضافة إلى ما يدفع إليه الجانب الأمني من ضرورات التقارب.

يتفق الروس والأتراك إضافة إلى الإيرانيين "ضمنا"؛ على عدد من الأمور في الملف السوري؛ لعل أبرزها؛ تأخير سيناريو التقسيم ليظل الاحتمال المؤجل والعلاج الأخير في حال فشلت كل الحلول الأخرى المطروحة والمتداولة في الميدان السوري وعلى طاولات جنيف وفيينا وغيرهما من العواصم.

فإيران كانت قد عملت جاهدة منذ الحرب مع العراق ثمانينات القرن الماضي لإزالة العوائق دون فرض هيمنتها؛ بدءا من الحدود الأفغانية شرقًا وحتى البحر الأبيض المتوسط غربًا، مع نفوذ يقترب من الحدود الشمالية الشرقية "لإسرائيل" ما يسمح لإيران باستمرار استخدام ورقة الشرعية المتمثلة بدعم قوى المقاومة؛ الأمر الذي يهدده التقسيم بتسليم هذه البقعة الجغرافية المهمة إلى جهة مدعومة بالحماية الأمريكية والروسية معًا، وقد دفعت إيران في سبيل تحقيق هذا النفوذ الكثير من الدماء والأموال. ومؤخرًا قال الكاتب الأمريكي مايكل وايس إن أوباما يعتبر العراق وسورية ولبنان من مناطق النفوذ الإيراني.

أما تركيا فهي اللاعب الأكثر خسارة في حال حدوث التقسيم؛ حيث تتخوف أنقرة من تنامي النزعة الانفصالية عند أكراد تركيا الذين يشكلون حوالي عشرين بالمئة من نسبة السكان، وفي بقعة قريبة من الأقاليم الكردية في كل من العراق وإيران وسورية، كذلك فإن التقسيم يحول بين تركيا والعالم العربي الذي كان من أهم ساحات نشاطاتها السياسية والاقتصادية خلال العقد السابق للربيع العربي.

وبالنسبة لروسيا فإن أكثر ما يهمها هي السيطرة على منفذ البحر الأبيض المتوسط كي يظل تحت نفوذها منعا لسيطرة أية قوى طامعة على خطوط إمداد الطاقة إلى أوروبا؛ لتظل الأخيرة مرتهنة للسوق الروسي لا تستطيع فكاكا منه، وهي الوسيلة الوحيدة لتوسيع المجال الحيوي الروسي غربا على حساب الناتو، ولتحقيق هذا سيظل من المفيد بقاء الأراضي السورية متماسكة دون تقسيم، أو أن تخضع لنفوذ قوى تدين بالولاء لموسكو.

نقطة اتفاق أخرى بين طهران وأنقرة، (وموسكو إلى حد ما) هي التضييق على حزب العمال الكردستاني الذي يشكل خطرا حقيقيا على كل الدول التي تضم بين حدودها أقليات كردية معتبرة كإيران وتركيا، بينما تفعل روسيا ذلك تضييقا على الأمريكيين من خلال محاصرة حصانهم الوحيد الذي يراهنون عليه في الميدان السوري.

من هنا يمكن لنا أن نفهم أن حقيقة المقايضة الروسية التركية؛ ترتكز على مباركة موسكو التدخل التركي للحد الجزئي من نفوذ الأكراد شمال سورية في مقابل أمرين، الأول: تخفيف اللهجة التركية الرافضة لبقاء الأسد والقبول به في مرحلة انتقالية "تمتد ربما حتى نهاية ولايته"، وهو ما صرح به مسؤولون أتراك منذ فترة ليست بالقريبة، والثاني: تغيير في القناعة التركية تجاه القبول بصيغة فيدرالية أو اتحادية في سورية والعراق عوضًا عن الفوضى والتفتت الطائفي والعرقي الذي يعاني منه جوار تركيا العربي.

ترى تركيا ما حل بداريا قبل يومين، وهي تراقب عمليات التطهير الطائفي، وتغيير البنية السكانية والخارطة الديموغرافية في سورية، وتحت رعاية أممية ودولية، دون أن تكون قادرة على تغيير هذا الواقع، ولذا فإن لجوءها إلى منطق المقايضات مع الدولتين الكُبريَين هو جوهر الاستدارة الحاصل في سياستها الخارجية، وهو الحل الوحيد للوصول إلى الصيغة التقسيمية الأخف وطأة من الانهيار الكامل. الأمر الذي يؤكد أن التسويات القادمة في الملف السوري ستكون على حساب مطالب الثورة السورية، وليس هذا بالجديد، وإنما الجديد هو أن هذه التسويات ستكون بقناعة كافة الأطراف بما فيها الطرف التركي للمرة الأولى.

عن الكاتب

سحبان مشوح

كاتب وباحث سوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس