مايكل سيسيريه - إنتيللاين نيوز - ترجمة وتحرير ترك برس

في مجال المخاطر السياسية والتحليل هناك دائما خطر استحواذ حدث واحد واستقرائه بحده، دون إحاطة كاملة بالظروف والمشاكل واللاعبين. في كثير من الحالات تميل صناعة المحلل الخبير إلى مكافأة هذا النوع من السلوك، عندما يزداد تغلغل وسائل الإعلام في حدث أو قضية معينة، وتزداد القيمة السوقية لتحليل الجوانب ذات الصلة، ولاسيما التحليل المصحوب بجرأة، والأكثر إثارة للصدمة.

ولهذا تأثير عملي في التحفيز على التعليق في حد ذاته، مثله مثل الحفاظ على العلامة التجارية وممارسة الأعمال، وليس لغرض تقديم إسهامات مهمة وذات مصداقية للحوار. تمنح هذه الديناميكية أيضا، وعن غير قصد، ميزة كبيرة لهؤلاء المعلقين الذين يفضلون الإثارة على الحقيقة. وهنا تسمح الدائرة القصيرة لدورة الأخبار للمشعوذبن بتجنب أي نوع من المسؤولية التحليلية. وبطبيعة الحال لا يوجد محلل يقول الصواب في كل مرة ( ولا ينبغي له بالضرورة أن يقول) ، فالتواضع التحليلي له حدود أيضا، ولكن في كثير من الأحيان يُعرض الرأي بوصفه تحليلا، ويعرض التحليل على أنه حقيقة.

هذا الاستهلال طريقة غير مباشرة لبدء النقاش حول تركيا ودورها الاستراتيجي في مرحلة ما بعد الانقلاب. فعلى وجه التحديد، وفي أعقاب محاولة الانقلاب الساقط،  تحولت فكرة أن أنقرة ستتراجع عن المنافسة الجيواستراتيجية مع موسكو من رصد الرواية إلى نوع من الحكمة التقليدية التحليلية. وانطلاقا من ذلك فإن التناول المفرط  لهذه الفكرة جعلها شيئا بدهيا؛ إلى حد القول بأن الصداقة المريحة بين تركيا وروسيا قد عادت، وفقا لبعض قطاعات وسائل الإعلام الدولية. ووفقا لبعض التفسيرات فإن أنقرة وموسكو يشكلان محورا ناشئا مناهضا للغرب، محورا ليس لدى الغرب الأطلسي ملاذ منه.

هذه الفكرة لديها بعض الأساس التحليلي، وهي تحمل بالتأكيد تبسيطا مغريا، ولكنها تكاد تكون مضطربة. في مقالي في وقت سابق في هذا الصيف، كتبت أنه على حين ستشهد علاقات تركيا وروسيا تحسنا كبيرا في أجواء ما بعد محاولة الانقلاب، فإن هذا لا يعني أن أنقرة قد وفقت بين تطلعاتها الجيوسياسية وادعاءات روسيا للسيادة الإقليمية. وبعبارة أخرى، فإن رؤية تركيا لروسيا لم تتغير بالضرورة بقدر ما تحولت أولوياتها. وتبقى التهديدات الروسية في البحر الأسود وسوريا نوعا من التهديد للمصالح الاستراتيجية التركية، لكن أنقرة لم تعد تحت أي أوهام بشأن قدرتها على تحدي موسكو مباشرة.

على أساس المصالح

خلافا لصراخ بعض وسائل الإعلام فإن التقارب التركي الروسي لا يكاد يكون ثمار الإعجاب المجتمعي المتبادل، ولكنه تطور براغماتي للطرفين. بالنسبة لروسيا، التي لا تزال تعاني من تأثير انخفاض أسعار الطاقة، وتوسع ألم العقوبات الغربية، إلى جانب تكاليف مغامرتها في أوكرانيا ووسيا ، كان الصراع مع تركيا ينظر إليه على أنه عامل مضاعف لا ضرورة له. أما بالنسبة لتركيا، التي لديها مجموعة من المشاكل في الخارج، وأزمة سياسية في الداخل مثلما يؤكد ذلك محاولة النقلاب العسكري، فإن المنافسة العسكرية المفتوحة مع روسيا كانت خطيرة ومكلفة بنفس القدر.

ينبغي النظر إلى مايبدو أنه تراجع حدة الصراع المفتوح بين البلدين على أنه عملية لحفظ ماء الوجه من كلا الطرفين. لم تثأر روسيا حقا من إسقاط القوات التركية لطائرة سوخوي 24 وقتل أفرادها العسكريين، وقبلت الحد الأدنى من الاعتذار التركي الرسمي. أما تركيا من جانبها فقد أقرت بالخطأ، لكنها كانت قادرة على الإيعاز بمؤامرة من أتباع غولن كانت وراء إسقاط الطائرة وما نجم عن ذلك من الحرب الباردة بين تركيا وروسيا.

وبالطبع لو كانت هناك بعض الحقيقة في هذا الاتهام، فإن الشكوك بين أنقرة وموسكو لم تقفز إلى حيز الوجود في اللحظة التي أسقطت فيها الطائرة الروسية. بيد أن هذه الشكوك قد تعاظمت بطرق مختلفة لسنوات، مع اشتداد التوترات الخطيرة على مدى عدة أشهر بلت ذروتها فقط في إسقاط الطائرة. وعلى سبيل المثال لم تكن الحكومة التركية سعيدة بالتصاعد التدريجي للمشاركة الروسية في الحرب الأهلية السورية، وقد كان السخط التركي واضحا قبل أن يتعمق التدخل الروسي في منتصف عام 2015. وقد اختبر الغضب التركي مرارا وتكرارا  بهجمات الروس والموالين للنظام السوري على التركمان المدعومين من أنقرة، وعلى غيرهم من التشكيلات المتحالفة مع تركيا في شمال سوريا.

وعلى نحو أوسع كانت تركيا تنظر (ولاتزال) إلى انحراف القوة الروسية وتوسعها في أوربا الشرقية والبحر الأسود على أنه تحديات خطيرة على المدى الطويل، وتهديد محتمل. يضاف إلى ذلك ظهور نزعة المغامرة الروسية تجاه  المناطق التي تقول تركيا إنها ذات أهمية تاريخية واستراتيجية خاصة بها: ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، ثم عملية القمع والطرد المتكرر لتتار القرم المحليين، وإحكام السيطرة الروسية على المناطق الانفصالية الجورجية ولاسيما جنوب أوسيتيا وأبخازيا، وتحول موسكو الواسع تجاه أذربيجان. وإلى جانب ذلك توسع الوجود العسكري الروسي في أرمينيا، وعلاقة موسكو المتنامية مع إيران، وبصمة روسيا الممتدة في سوريا. كل ذلك منح تركيا جميع الأسباب التي تشعرها بأنها محاصرة.

قبل إسقاط تركيا لطائرة السوخوي الروسية، كان عدم الرضا التركي عن روسيا وإجراءاتها العنيفة في المناطق المحيطة بتركيا معروفا جيدا. وكان الفرق أن أنقرة مع كل إحباطها من الدور الروسي، لم تكن حريصة على تحدي روسيا علنا في هذه المناطق، وتضع في حسبانها التفوق الروسي التقليدي. ومع ذلك ضغطت أنقرة ضغطا كبيرا من أجل زيادة تدخل الولايات المتحدة وحلف الناتو في سوريا والمنطقة الأوسع_ بما في ذلك الضغط من أجل ضم جورجيا إلى حلف الناتو- وهو الضغط الذي يمكن النظر إليه على أنه محاولة لا لحشد الدعم فقط من أجل نتائج أفضل في سوريا بل في المنطقة الواسعة ( في الوقت نفسه تعزز تركيا دورها دورها في هذه العملية) . وعلى حين لا تزال الظروف الدقيقة  المحيطة بإسقاط طائرة السوخوي 24 مبهمة إلى حد ما( هل تمت الموافقة على العملية بسلسلة من الأوامر أم لا) فإنه يجبر تركيا على أن تكون أكثر انفتاحا حول تصوراتها لتهديد روسيا المحتمل.

تحسن العلاقات بين موسكو وانقرة بعد الانقلاب ليس بذرة تحالف ناشئ، ولكنه عودة إلى الوضع الذي كان قائما من المنفعة المتبادلة والشك المتبادل. ولأن أنقرة تركز اهتمامها على القضايا الداخلية، فإنها ستكون أكثر هدوءا بكثير تجاه شكوكها عن النفوذ الإقليمي الروسي، ولكنها لن تتراجع تماما بالمعنى الأوسع عن أن الأولوية الروسية تشكل تحديا لها على المدى الطويل.

التراجع

حتى مع اتخاذ أنقرة خطوة إلى الوراء في تنافسها مع موسكو، فإن هناك أسبابا وجيهة للاعتقاد بأن المراسي التركية تبقى غربية إلى حد كبير. وعلى الرغم من النزعات الشعبوية في وسائل الإعلام التركية في أعقاب الانقلاب، فإنه لا يبدو أن هناك رغبة حقيقية لدى الحكومة التركية لفك عرى  علاقات البلاد مع الدول الغربية.  هذا الأمر يبدو معقولا تماما، ذلك أن بحث الحكومة التركية عن الاستقرار بعد الانقلاب لا يقتصر على إصلاح العلاقات مع روسيا فقط، في مقابل التخلي عن مصالحها الأمنية والاقتصادية طويلة الأجل والأكثر أهمية بكثير مع الغرب. ومن الجدير بالذكر، على سبيل المثال، أن عملية المصالحة مع إسرائيل كانت تسير على قدم وساق قبل محاولة الانقلاب، في حين أن جهود أنقرة لتطبيع العلاقات مع إسرائيل لم تزد إلا بعد محاولة الانقلاب.

في بعض النواحي تعود تركيا، على الأقل مؤقتا، إلى وضعية " صفر مشاكل" ، ومن خلالها تسعى إلى مراجعة علاقاتها مع القوى الإقليمية. على أن العودة إلى سياسة صفر مشاكل ليست متجذرة بالضرورة في مفهوم " العمق الاستراتيجي"  الذي دعا إليه رئيس الوزراء السابق أحمد داود أوغلو، الذي سعى إلى تحويل تركيا إلى قوة مستقلة. لكن سياسة صفر مشاكل بعد  محاولةالانقلاب هي وسيلة لتهدئة التوترات الإقليمية، وتمنح تركيا الزمان والمكان للتركيز على سلسلة الأزمات الداخلية : الصراع السياسي الداخلي، والاقتصاد، والتمرد الكردي، والإرهاب، وما شابه ذلك.

وخلاصة القول أن الحنق التركي تجاه الغرب وعلاقتها المتجددة مع روسيا قد بولغ فيهما مبالغة كبيرة. وللتأكيد على ذلك تواجه شراكة تركيا مع الغرب مجموعة متنوعة من التحديات الحقيقية، لكن أنقرة ستعالجها بوصفها عضوا في المجتمع الأوروأطلسي، وليس من خارجه.  

عن الكاتب

مايكل سيسيريه

باحث متخصص في شؤون منطقة البحر الأسود والأورومتوسط في مجلة فورين بوليسي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس