الأناضول 

تتوالى الأعوام على السكك الحديدية وقطاراتها التالفة في لبنان؛ ما يهدد مصيرها جراء الإهمال والتعديات، ويدفع لبنانيون إلى رفع أصواتهم مطالبين بتحويل محطات القطارات إلى متاحف أثرية للحفاظ على ما قد تفقده الذاكرة يوما ما. 

وعكفت "الشركة العثمانية الاقتصادية" عام 1891 على إنشاء أوّل خطّ للسكك الحديدية بين بيروت ودمشق وحوران داخل سوريا، ليصل عام 1906 إلى حلب (شمالي سوريا)، قبل شقّ خطّ طرابلس عام 1911، ووصله بتركيا في العام التالي. 

وهو ما ربط لبنان بالعالم العربي، ومن ثم بأوروبا وأفريقيا عبر خط "أوروبا- تركيا- حلب- بعلبك– رياق"، وسمح بتشغيل 3000 آلاف يد عاملة، حظيت محطة رياق وحدها بـ 400 منهم.

لكن بعد مضي قرابة 125 عاما من عمر محطات القطار العثمانية في لبنان، والتي توقفت عن العمل عام 1997، أي بعد سنوات من الحرب الأهلية اللبنانية (1975 - 1990)، تحولت القطارات وعرباتها على مر الأيام إلى مجرد ركام حديدي صدئ متفرق على مساحات واسعة مهمشة يتعرض لتعديات متعددة. 

وتعد محطة رياق البقاعية (شرقي لبنان)، التي تأسست عام 1898، أكبر محطات القطارات في الشرق على الإطلاق، حيث تبلغ مساحتها 170 ألف متر مربع، وتتألف من 70 مبنى، منها ما هو تابع للمحطة التشغيلة، وأخرى بنيت كمعامل مختصة بتصليح قطع المقطورات على اختلاف أنواعها، وأخرى مختصة في تصنيع القطارات. 

هذا الموقع يتحدث عنه رئيس جمعية " Train Train" (أهلية غير هادفة للربح)، إلياس معلوف، بقوله لوكالة الاناضول، إن "السكك الحديدية في رياق تضم أكبر معمل لتصنيع عربات القطارات والمقطورات وقطع الغيار، وتبلغ مساحته 133430 متر مربع. ويتألف المعمل وحده من 48 مبنى (23 للمخازن و25 مبنى للمصانع)". 

"كما ضم المعمل مخازن ومرائب إلى جانب سعته لتوضيب قطع تجهيز وغيار ومواد أولية نادرة، لدرجة أن القطع المعطلة من جل الدول الشرق أوسطية كانت تُصلح فيه، فالمحطة بالتالي لا تحمل تاريخنا وحدنا، بل تاريخ دول متعددة"، بحسب معلوف. 

ولا يزال داخل المعامل، يضيف معلوف، "عددا كبيرا من السبك والمعادن والمعدات والآلات، ومنها قطع ليست موجودة في أي مكان آخر من العالم. كما أن واحدا من القطارات المصفحة، التي تزيد زنته عن 160 طنا، ولم يصنع منها سوى أربعة في العالم، موجود حتى اليوم داخل المحطة في رياق". 

وبحزن يتابع أن "منشآت السكك الحديدية وتجهيزاتها ومبانيها وآلياتها ومعداتها أصيبت بأضرار جسيمة منذ توقفها عن العمل، كما تعرّضت مساراتها لتعديات مختلفة، آخرها الشروع في تجهيز المكان لبناء ثكنة عسكرية على جزء كبير من مساحة المحطة". 

وباسم أهالي منطقته، يحذر معلوف من "الشروع في تجازو الأهمية الوجودية لهذا المكان وتنفيذ مشروعات استثمارية أو خدماتية داخله"، مشددا على أن "القطارات لأهل رياق هي بمثابة (شجرة) الأرزة (التي تتوسط العلم اللبناني).. لن نسمح بتمرير مشروع بناء ثكنة عسكرية في المكان.. وقد قدّمت بلدية المنطقة أرضا مجانية لبناء هذه الثكنة، حرصا على عدم المساس بهذه المحطات التاريخية". 

ويتمنى معلوف أن "تعود لبلدة رياق المكانة التاريخية التي اكتسبتها بفضل ربطها خمس من أهم المدن العربية آنذاك، وهي حمص، حلب، دمشق، بيروت وزحلة.. وندعو الهيئات الرسمية، التي لم تستجب لأي من نداءات إعادة تشغيل القطارات، إلى أن تتجه الى بناء متحف تراثي تاريخي في رياق". 

وتقترح جمعيات لبنانية، بينها "traim train"، إعادة ترميم المكان لاستعادة منظره القديم، والشروع في تنفيذ سلسلة من المهرجانات والأعمال الفنية والعلمية داخل حدوده؛ لتسلط الضوء على الأهمية التاريخية للمكان، مع تخصيص زوايا لعرض الوثائق التاريخية العثمانية والفرنسية المرتبطة بالموقع، إلى جانب نشر رسوم وخرائط قديمة للسكك تشرح آلية عملها آنذاك. 

ومن الممكن أن يكون هذا المتحف هو الضمانة الوحيدة للحفاظ على مئات المنحوتات المعدنية من قطارات وأدوات وأجهزة متناثرة في المباني العتيقة التي تحيط بها السكك الحديدة، وسط أشجار برية عملاقة تتخطى العشرة أمتار، إضافة إلى الحفاظ على 30 قاطرة و200 عربة موجودة داخل مباني المعمل. 

ومن الضروري، بحسب معلوف، "إعادة تأهيل قطار قديم لنقل الزائرين بين المحطة والمصنع ذهابا وإيابا.. كما يفترض نقل كل القطارات الموجودة في مختلف المحطات إلى رياق، التي تضم 80 قطارا، وإذا أضفنا إليها ما تبقى من ترامواي بيروت (القطار الكهربائي)، الذي أنشئ عام 1895، تصبح مجموعة القطارات في متحف رياق (المأمول) نحو المائة". 

ووفقا لمعلوف، فإن "جهات خارجية أبدت استعدادها لتمويل المتحف بالكامل، لكن لا قرار حكوميا حتى الآن بشرعنة مشروع المتحف.. عرضنا على الحكومة أكثر من مرة مشروعات ممولة لبناء متحف تراثي في المكان، وشددنا على الأهمية السياحية التي من الممكن أن يكتسبها الموقع، لكن لا تفاعل رسميا مع كل المحاولات التي نبادر بها للحفاظ على تاريخنا". 

ولبنان من البلدان القليلة في العالم، التي أوقفت خدمات السكك الحديدية، رغم الحاجة الملحة إلى إعادة العمل بها؛ بسبب أزمات السير الخانقة في العديد من المناطق. 
وتقدر دراسات تكلفة التشغيل بما لا يزيد عن 30 مليون دولار، تتضمّن بناء سكك الحديد كلها، والمحطات وكل توابعها، والقطارات، وأجهزة الاتصالات والحاسب الآلي، وغيرها من المستلزمات اللوجستيّة.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!