محمود عثمان - خاص ترك برس

شهدت الأيام الأخيرة وتيرة عالية من التجاذبات السياسية بين أنقرة وبعض الدول الأوروبية، على خلفية تصعيد الخطاب السياسي التركي تجاه أوروبا، حيث اتهم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان دولا أوروبية منها، ألمانيا والنمسا، بدعم المحاولة الانقلابية بتاريخ 15 تموز/ يوليو وحماية الإرهابيين الأكراد. حيث تقول السلطات التركية إن ألمانيا تحتضن لوحدها ما يزيد على 4500 إرهابيا من حزب العمال الكردستاني، مطلوبين للعدالة التركية بسبب قيامهم بأعمال إرهابية ضد الدولة التركية. لكن ألمانيا بدل تسليمهم إلى تركيا تقوم بتوفير جميع أصناف الدعم والرعاية. الاتهامات التركية لأوروبا لا تنتهي عند هذا الحد، بل تتعداه إلى مسألة عدم التزام الطرف الأوروبي بالاتفاق الموقع بين الطرفين، في مطلع هذا العام، بخصوص إعادة اللاجئين مقابل رفع التأشيرة [الفيزا] عن المواطنين الأتراك والسماح لهم بدخول أوروبا بدونها، إضافة إلى تعهد الطرف الأوروبي بدفع ثلاثة مليار يورو تنفق على مخيمات اللاجئين في تركيا.

تقول تركيا إنها نفذت جميع ما التزمت به، فانخفضت نسبة تدفق اللاجئين إلى أوروبا إلى حدها الأدنى، أي إلى مستوى ما قبل انطلاق الثورات واندلاع الحروب في منطقة الشرق الأوسط. مقابل ذلك - كعادته – لم يلتزم الطرف الأوروبي بما تعهد به، سوى أقل من ربع المبلغ الذي تعهد به.

وعندما بدأ الرئيس أردوغان بتوجيه انتقاداته اللاذعة الصريحة، بدأ الأوروبيون يتهمون الطرف التركي بالمتاجرة بقضية اللاجئين الإنسانية، باستخدامها ورقة مقايضة على طاولة المفاوضات. يرد الطرف التركي بأن تركيا هي الدولة الأولى في العالم في استقبال اللاجئين عددًا، كما أنها تحتل المرتبة الأولى في كمية المساعدات الإنسانية قياسًا بمعدل دخلها القومي، وبالتالي لا يحق للآخرين أن يعطوا دروسا في الإنسانية بينما هم مقصرون ولا يقومون بواجبهم الإنساني تجاه هؤلاء المظلومين الفارين من أتون الحروب ونوائب الدهر. ثم كيف يحق لطرف غني مترف أوصد بابه في وجه اللاجئين، ولا يريد رؤيتهم، أن يتهم طرفًا استقبل العدد الأكبر منهم رغم قلة إمكانياته!.

التجاذبات التركية الأوروبية

عام 2004 تقدمت تركيا بطلب رسمي للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. الاتحاد من جانبه رحب بطلب تركيا العضو في حلف الناتو منذ خمسينات القرن الماضي، والتي كانت قد تقدمت قبلها بطلب للانضمام للسوق الأوروبية المشتركة التي انبثق عنها الاتحاد الأوروبي.

 آلية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي تقتضي من الدولة المتقدمة للعضوية مواءمة جميع قوانينها ونظامها السياسي مع قوانين الاتحاد، من خلال 35 فصلا، يتم فتحها من طرف الاتحاد، وتقوم الدولة المرشحة للعضوية بالعمل على تحقيق الشروط المطلوبة. وبعد استيفاء تلك الشروط، واتفاق الطرفين يتم إغلاق هذا الفصل، والانتقال إلى فصل آخر، وتستمر هذه العملية إلى الانتهاء من إغلاق جميع الفصول، عندها يرفع الطلب إلى الاتحاد الأوروبي للموافقة عليه وإقراره، بعد ذلك تصبح الدولة المترشحة عضوا في الاتحاد تتمتع بكامل مزايا العضوية.

أما بالنسبة لتركيا فقد كان الأمر مختلفًا إلى حد كبير، كونها بلد إسلامي يترشح لعضوية ناد مسيحي، وخصوصا بعد تصاعد مستوى العداء للإسلام في أوروبا بما سمي "إسلاموفوبيا" مما اضطر كثيرا من سياسيي اليمين للتعبير صراحة عن عدم موافقتهم على انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي، كونها دولة شرق أوسطية، ولا تتمتع بالقيم الأوروبية!.

الرأي العام في تركيا كان متحمسًا في البداية لفكرة الانضمام لأوروبا، لسببين أساسيين، أولهما: أن أوروبا مشروع حضاري، حيث تقتضي مراحل الانضمام القيام بإصلاحات كبيرة وجذرية تصب في صالح حقوق الإنسان والحريات العامة والشفافية، وغيرها من الأمور التي ترتقي بالدولة المترشحة لتصبح في مصاف الدول الأوروبية المتطورة. وثاني الأسباب، هو المزايا الاقتصادية التي توفرها عملية الاندماج مع أوروبا، مما ينعكس إيجابيا وبشكل كبير على اقتصاد البلد العضو، وخصوصا مع وجود ما يقارب الخمسة ملايين مواطن تركي منتشرين في جميع أنحاء القارة الأوروبية. حيث تحتضن ألمانيا لوحدها ما يقارب ثلاثة ملايين منهم.

هذا التداخل في العلاقات والتشابك في المصالح جعل كل طرف بحاجة ماسة للطرف الآخر، لكن يبدو الطرف الأوروبي غير قادر، وغير مستعد، حاليًا لدفع ضريبة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وخصوصًا بعد جنوح المجتمعات الأوروبية في السنوات الأخيرة نحو اليمينية والتطرف وعدم قبول الآخر.

منذ عام 2004 وإلى يومنا هذا تم فتح 16 من أصل 35 فصلا، لكن لم يتم الاتفاق على إغلاق سوى فصل واحد، يتعلق بالعلوم والبحوث العلمية. أما بقية الفصول فقد بقيت مفتوحة، بسبب العراقيل المصطنعة التي يضعها الطرف الأوروبي، وعندما لا يجد الأوروبيون حججًا يتذرعون بها، يلجؤون إلى القضية القبرصية!.

مقابل ذلك عام 1998 بدأت المفاوضات حول انضمام عشر دول من دول أوروبا الشرقية، التي كانت تنتمي لحف وارسو، وبحلول عام 2004 تم قبول عضويتها في الاتحاد الأوروبي، خلال مدة لم تتجاوز ست سنوات. بل إن كثيرا من تلك البلاد، بلغاريا مثلًا، لا ترقى لمستوى تركيا في كثير من المجالات. أما قبول الجزء اليوناني من قبرص فهو طامة بحد ذاته!.

في أسباب توتر العلاقات التركية الأوروبية

شكلت المحاولة الانقلابية في 15 تموز من العام الجاري نقطة فارقة في العلاقة بين تركيا والدول الأوروبية، التي وقفت بشكل شبه صريح إلى جانب الانقلابيين. الاتحاد الأوروبي يجد من حقه التدخل في الشؤون الداخلية لتركيا، كونها مرشحة لعضوية الاتحاد.

الأتراك من جهتهم باتوا يضيقون ذرعا من الفوقية التي تتعامل بها الدول الأوروبية معها. الأهم من ذلك، أن غالبية المواقف الأوروبية تجاه تركيا لا يمكن وصفها بالصديقة، ابتداء من ضلوع بعض الدول في دعم المحاولة الانقلابية، والدعم الفاضح المكشوف لحزب العمال الكردستاني، بالرغم من تصنيفه كمنظمة إرهابية، والموقف المتخاذل عقب إسقاط المقاتلات التركية الطائرة الحربية الروسية، وليس أخيرًا عدم التزام الاتحاد الأوروبي بتنفيذ بنود الاتفاق بخصوص اللاجئين.

لب المشكلة يكمن في أن تركيا اليوم ليست تركيا الأمس. تركيا اليوم تتطلع إلى تعامل قائم على الندية واحترام خصوصيات كل بلد، يراعي مصالح الطرفين. بينما اعتاد الطرف الأوروبي على التدخل في الشأن الداخلي التركي تحت ذريعة أن تركيا مرشحة لعضوية الاتحاد الأوروبي، كما تعود على تلقي الخدمات الاستراتيجية بشكل شبه مجاني. إذا أضفنا أسلوب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الصريح، ولهجته الاتهامية القاسية التي لم يسبق للأوروبيين أن سمعوا مثلها من الساسة الأتراك، وكشفه تقلباتهم وازدواجية معاييرهم وتنصلهم من التزاماتهم، مما جعلهم يضيقون به ذرعًا.

شكلت تركيا على الدوام حاجز صد وقى أوروبا من تقلبات وقلاقل ومشاكل الشرق الأوسط، ومن قبل كانت مخفرا متقدمًا لحلف شمال الأطلسي في وجه الاتحاد السوفيتي. اليوم زادت أهميتها الاستراتيجية بسبب حروب الشرق الأوسط، وإفرازاتها من لاجئين وتسلل للإرهابيين، لكن تركيا حتى هذه الساعة لم تقبض ثمنًا استراتيجيًا مقابل تلك الخدمات الاستراتيجية. 

أردوغان يدرك جيدًا حاجة الأوروبيين الماسة لتركيا، ويعلم جيدًا أن أوروبا عاجزة عن مقاطعة تركيا كليًا، كما أنها غير مستعدة لضمها كعضو كامل الصلاحية.

أردوغان لن يقدم للأوروبيين خدمات مجانية كما درجت العادة، ولن يستخدم لغة دبلوماسية مدورة مقابل نفاقهم وازدواجية معاييرهم. لذلك لا تستغربوا إذا وصفه الأوروبيون، بأردوغان السلطان، الإسلامي الإخواني المتطرف، والدكتاتور الذي يقمع مخالفيه وينكل بهم!.

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس