ألتاي أتلي - آسيا تايمز - ترجمة وتحرير ترك برس 

في حدث نادر في هذه الأيام استقبلت أنقرة بحماس حقيقي الخطوة التي أقدمت عليها بروكسل، وهذا هو ما حدث تحديدا في الأسبوع الماضي عندما طلبت المفوضية الأوروبية تفويضا من المجلس الأوروبي لبدء مفاوضات مع تركيا لتوسيع اتفاق الاتحاد الجمركي الساري منذ عشرين عاما بين تركيا والاتحاد الأوروبي.

تركيا في موقف حرج بين التقيد باتفاق الاتحاد الجمركي وليس العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي. عندما وقع اتفاق الاتحاد الجمركي في عام 1995، عد ذلك خطوة أولية مؤقتة نحو عضوية تركيا الكاملة. منذ ذلك الحين مر عقدان من الزمن، وفي حين أن الاتفاق فعل الكثير لزيادة التجارة الثنائية والاستثمار، ومع تضاؤل احتمالات حصول تركيا على العضوية الكاملة وتغير ديناميات التجارة العالمية تغيرا جذريا منذ توقيع الاتفاق، فإن الوقت قد حان لإعادة النظر في هذا الاتفاق. وكما ذكرت المفوضية الأوروبية في بيانها الصحفي فإن تعديل الاتفاق" يحتاج إلى أن يعكس العلاقات التجارية الجالية بين تركيا والاتحاد الأوروبي، حيث إن التعديل سيحقق مكاسب اقتصادية للشريكين".

يدرك الطرفان أنهما استفادا بشدة من اتفاق الاتحاد الجمركي حتى الآن، فوفقا لبيانات معهد الإحصاء التركي فإن 44.5% من الصادرات التركية في العام الماضي توجهت إلى الأسواق الأوروبية، في حين بلغت حصة دول الاتحاد الأوروبي من واردات تركيا 38% . وبعبارة أخرى، فإن أوروبا هي وجهة التصدير الرئيسة لتركيا، وفي المقابل فإن السوق التركي حيوي بالنسبة إلى المنتجين الأوروبيين أيضا. وعلاوة على ذلك فإن ثلثي رصيد الاستثمار الأجنبي المباشر في تركيا تكوَّن من الدول الأوروبية. وقد عزز اتفاق الاتحاد الجمركي العلاقات التجارية والاستثمارية لا بخفض الحواجز الجمركية فقط، بل بمواءمة القواعد والمعايير والمقاييس، وإرساء ثقافة التعامل التجاري بينهما. كان اتفاق الاتحاد الجمركي بين الاتحاد الأوروبي وتركيا دافعا أيضا للاستثمار الأجنبي غير المباشر في تركيا، حيث استثمرت العديد من الشركات في مرافق الإنتاج هناك، مثل شركات صناعة السيارات اليابانية والكورية، وذلك من أجل الاستفادة من فرصة الصادرات المعفاة من الجمارك إلى أوروبا.

وفي المقابل ازداد قلق الأتراك من اتفاق الاتحاد الجمركي، لأن تكاليف الصفقة في الوقت الحالي صارت أكبر من فوائدها، أو على حد تعبير رئيس جمعية المصدرين الأتراك، محمد بويوك كيشي "صار القميص صغيرا جدا حتى يرتديه الأتراك".

صار القميص صغيرا جدا على الأتراك لأن نطاق الاتفاق أولا يقتصر على السلع الإنتاجية . في عقد التسعينيات عندما بذلت تركيا جهودا لتوجيه صناعتها تجاه التصدير بعد سنوات من استراتيجة " إحلال الواردات"  من أجل الاندماج في الاقتصاد العالمي، كان الاتفاق ناجعا، لكن في الوقت الحالي ومع تقدم الاقتصاد التركي فإن استبعاد الزراعة من الاتفاق لم يصر مشكلة فقط، بل إن هناك قطاعات تتزايد أهميتها بالنسبة إلى الاقتصاد التركي، مثل تجارة الخدمات والمشتريات الحكومية ظلت خارج نطاق تحرير التجارة مع أوروبا. إن صفقة أشمل من الاتفاق الحالي تتضمن هذه القطاعات بالإضافة إلى السلع الصناعية ستوسع من حجم الأعمال لصالح الجانبي، وترفع أيضا القدرة التنافسية للشركات التركية، وتسهم في تحرير الاقتصاد التركي، وربما أكثر مما فعله اتفاق الاتحاد الجمركي في عقد التسعينيات.

النطاق المحدود للاتفاق هو مجرد شيء واحد، لكن المشكلة الحقيقية، من وجهة النظر التركية، هي مشكلة هيكلية. يقتضي اتفاق الاتحاد الجمركي بين تركيا والاتحاد الأوروبي أن تلتزم تركيا بسياسيات بروكسل للتجارة الخارجية (ما يعني أن تركيا تحتاج إلى تطبيق الرسوم الجمركية المشتركة مع الاتحاد الأوروبي على الورادات من دول العالم الثالث) لكنها بوصفها ليست عضوا في الاتحاد فلا تستطيع أن تشارك في آليات صنع القرار، فتركيا في الواقع لا تتمتع حتى بصفة مراقب في لجنة السياسية التجارية في الاتحاد الأوروبي. يملك الاتحاد الأوروبي في الوقت الراهن اتفاقيات تجارة حرة سارية مع 33 دولة ومنطقة، لكن مصالح تركيا لا تُمثل في المفاوضات، كما أنها ليست جزءا من هذه الاتفاقيات، ومعظم هذه الاتفاقيات أوسع من اتفاق الاتحاد الجمركي بين تركيا والاتحاد الأوروبي. وفي إطار الهيكل الحالي فإن اتفاقيات التجارة الحرة الحالية والمتوقع توقيعها في المستقبل، مثل مقترح اتفاقية الشراكة التجارية والاستثمارية العابرة للأطلسي، تفتح الباب عمليا أمام واردات السوق التركي من دول الشراكة مع عدم المعاملة بالمثل بالنسبة إلى الأتراك.

تتطلع الحكومة التركية إلى بدء مفاوضات مراجعة اتفاق الاتحاد الجمركي خلال النصف الأول من عام 2017 بعد منح التفويض للمفوضية الأوروبية،هلى أن تنتهي المفاوضات في غضون العامين المقبلين. بحسب دراسة أجرتها مؤسسة التنمية الاقتصادية في تركيا فإن تعديل اتفاق الاتحاد الجمركي سيرفع إيرادات تركيا 12 مليار يورو، إضافة إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي للبلاد بنسبة 2.5% على المدى البعيد.

يظل هناك أمران رئيسيان يقلقان الجانب التركي: الأول، استمرار حالة عدم اليقين حول النمو المستقبلي للعلاقات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا عموما، وكذلك فيما يتعلق بالحواجز غير الجمركية التي ظهرت نتيجة لذلك. لم تحل قضية تحرير التأشيرات بين تركيا والاتحاد الأوروبي بعد، وما تزال تشكل عقبة كبيرة أمام رجال الأعمال الأتراك الذين يجرون تعاملات تجارية مع أوروبا. وبالمثل تشكل حصص النقل المفروضة على المركبات التركية الحاملة لمنتجات التصدير إلى أوروبا عقبة أخرى أمام التجارة الثنائية. وبعبارة أخرى، فعلى حين يمكن نقل المنتجات التركية بحرية داخل أوروبا، لا يمكن لرجال الأعمال أصحاب البضائع والشاحنات التنقل بحرية بنفس الطريقة. وحتى إن/ عندما تعدل اتفاقية الاتحاد الجمركي، فسيكون لدى الاتفاق القليل ليقدمه في هذا المجال. لا تتطلب المسألة تقاربا اقتصاديا فحسب، بل تتطلب أيضا تقاربا سياسيا، وهو غير متوفر حاليا.

يقودنا البعد السياسي للتجارة إلى مصدر القلق الثاني لدى الأتراك. يذكر البيان الصحفي المذكور آنفا عن المفوضية الأوروبية فيما يتعلق بتحديث اتفاق الاتحاد الجمركي، أن "احترام الديمقراطية والحقوق الأساسية سيكونان عنصرا أساسيا للاتفاق". وبكل تأكيد ليس الأوروبيون فقط هم من يسعون جاهدين إلى مزيد من الديمقراطية والحقوق، فالأتراك أيضا يسعون إلى ذلك جاهدين ويرحبون به. لكن المشكلة أنه ليس واضحا ما سيعنيه هذا الاشتراط عمليا، وفي الوقت نفسه فإن تجربة الأتراك السابقة لا تمنعم من التشكيك في أن وضع هذا الشرط هو أداة الاروبيين للتراجع. الخبر السار أن شركات من تركيا والاتحاد الأوروبي ستستفيدان من تحديث اتفاق الاتحاد الجمركي، لذلك يمكن توقع أن تنتصر الواقعية الاقتصادية على التسييس.

تستكشف الحكومة التركية الآن ما الذي يمكن طرحه على الطاولة عندما تبدأ المفاوضات مع بروكسل. أعلن وزير الاقتصاد التركي، نهاد زيبكجي، أخيرا أن هناك أربعة مسارات محتملة قيد الدراسة: تعديل الاتفاق مع الاحتفاظ بالحماية الجزئية للزراعة، أو تعديل كامل للاتفاق يشمل الزراعة والخدمات والمشتريات العامة، أو تحويل اتفاق الاتحاد الجمركي إلى اتفاق للتجارة الحرة يغطي جميع القطاعات ويحدد تسعيرة جمركية لكل منها، وأخيرا اتفاق للتجارة الحرة بدلا من الاتحاد الجمركي، ولكنه يقتصر ايضا على المنتجات الصناعية.

لا توجد ضمانة لعدم إخفاق المفاوضات، لكن تطوير اتفاق الاتحاد الجمركي بين الاتحاد الأوروبي وتركيا سيكون مفيدا بلا شك لاقتصادهما، أيا كان المسار الاقتصادي الذي سيتخذ من بين المسارات الأربعة. ومهما يكن الأمر فإن أهمية  تعديل الاتفاق والعوائد المحتملة تتجاوز البعد الاقتصادي.

تمر العلاقات بين بروكسل وأنقرة حاليا بأوقات عصيبة. يتصاعد التوتر حول عدد كبير من القضايا، وأدى اتفاق اللاجئين إلى مزيد من الخلاف بينهما بدلا من تقريبهما، وصارت المسألة تآكل الثقة المتبادلة بينهما، الأمر الذي أدى إلى قرار البرلمان الأوروبي الذي يحث حكومات الدول الأعضاء على تجميد محادثات الانضمام مع تركيا، وإلى شعور متزايد من جانب الأتراك بأنهم يعاملون معاملة غير عادلة ومنافقة. على أن الروابط الاقتصادية والثقافية القوية بين الجانبين، وحقيقة أنهما يواجهان مشاكل واحدة تتطلب حلولا مشتركة، توجب على الاتحاد الأوروبي وتركيا أن يجريا حوارا أفضل بدلا من وقف المحادثات. إن تطوير اتفاق الاتحاد الجمركي يمكن أن يخدم هذا الغرض بطريقين:

كانت الصبغة غير المتكافئة لاتفاق الاتحاد الجمركي الحالي، لمدة طويلة، مصدرا لشعور الأتراك بأنهم يعاملون معاملة غير عادلة، إلى جانب حقيقة أن تركيا تبذل جهودا للانضمام إلى الجموعة الأوروبية منذ عام 1963 دون نجاح يذكر (والأكثر واقعية أيضا أن حاملي أجوزة سفر الاتحاد الأوروبي يمكنهم السفر بسهولة إلى تركيا، في حين يواجه الأتراك لوائح صارمة عند السفر إلى أوروبا). إن اتفاق الاتحاد الجمركي المعدل يمكن أن يخفف جزئيا، على الأقل، من الشعور بالغبن وذلك بإقامة إطار أكثر توازنا للعلاقات الاقتصادية، ويمكنه في الوقت نفسه أن يثبت للمواطنين الأوروبيين فوائد وجود تركيا في اللعبة بفتح فرص أفضل للتجارة والاستثمار للشركات الأوروبية في السوق التركي.

الطريقة الأخرى التي يمكن أن تساعد في إعادة بناء الثقة بين تركيا والاتحاد الأوروبي عبر تعديل اتفاق الاتحاد الجمركي، هي ببساطة فتح قناة اتصال مثمرة جديدة. التفاوض بشأن الاتفاقيات التجارية ليس إجراء سهلا، لكن نظرا لأن الهدف من التفاوض هو المصلحة المادية المتبادلة، فإن حديث الطرفين مع بعضهما وإيجاد أرضية مشتركة بينهما أقل تعقيدا نسبيا. يمكن بناء الثقة وإعادتها بالحوار، وفي وقت لا تمكّن فيه القضايا الشائكة، مثل تحرير التاشيرة واللاجئين من تحسين الحوار بين تركيا والاتحاد الأوروبي، أو حتى الحفاظ عليه عند مستوى مقبول، فإن قضايا التجارة يمكن أن تكون نقطة بداية أفضل والانطلاق منها إلى قضايا أخرى. ليس لدى بروكسل وأنقرة خيار واقعي إلا الحديث والتفاهم.

تركيا التي تحتل المرتبة الثامنة عشرة في أقوى اقتصاديات العالم من حيث الناتج المحلي الإجمالي هي الدولة الوحيدة التي تملك اتفاق اتحاد جمركي مع الاتحاد الأوروبي إلى جانب دويلات مثل إمارة أندروا وسان مارينو وموناكو. يحب تطوير اتفاق الاتحاد الجمركي بين تركيا والاتحاد الأوروبي دون تضييع كثير من الوقت.

عن الكاتب

ألتاي أتلي

أكاديمي تركي مختص بالاقتصاد السياسي الدولي والعلاقات الدولية، وباحث زميل في الدراسات الآسيوية بمركز إسطنبول للسياسة في جامعة صبانجي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس