دينيز باسبينار - تسايت (الألمانية) - ترجمة وتحرير ترك برس

في تركيا نادرا ما يتم الفصل بين الحياة الشخصية والحياة السياسية للأفراد. وعلى غرار أتاتورك، يعتمد أردوغان أيضا على صورة الأب القوي والحامي لشعبه، وهو بذلك يداعب مشاعر الأتراك سواء في الداخل أو حتى في المانيا.

قبل سنوات قليلة، وفي خضم حملة انتخابية كانت تشهدها تركيا، وصلتُ إلى مطار إسطنبول. وأمام بوابة المطار شاهدت عند الخروج صورة ضخمة بالأبيض والأسود لقائد سياسي، حيث بدت مألوفة بالنسبة لي في كل تفاصيلها، خاصة وأنها موجودة في الآلاف من المكاتب والمؤسسات العمومية في تركيا. ولكن عندما تثبتّ منها، اكتشفت أنها ليست لمصطفى كمال أتاتورك مؤسس الجمهورية التركية، بل تعود للزعيم الحالي رجب طيب أردوغان.

ربما يكون هذا التشابه الكبير في ملامح الصورة بين أردوغان وأتاتورك في شكل الجسم والهيئة مقصودا من قبل مصممي الصورة، وذلك من أجل إعطاء انطباع حول ما يدفع أردوغان في عمله السياسي، إذ أننا نشهد هنا صعود زعيم جديد بصدد أخذ مكان زعيم سابق، وهو مصطفى كمال أتاتورك الملقب "بأب الأتراك". وحتى هذا اللقب في حد ذاته، يحيلنا إلى الخلط بين العام والخاص في تركيا، حيث أن الحياة الشخصية والسياسية لا يوجد بينهما خط فاصل في المجتمع التركي الذي لا يزال يحافظ على تقاليد ونمط اجتماعي تقليدي. 

ومن المثير للاستغراب أن نمط حياة مصطفى كمال الذي كان يلعب دور الأب، كان مختلفا تماما عن نمط المواطن التركي العادي في ذلك العصر، إذ أنه تزوج مرة واحدة ولم تدم هذه الزيجة لوقت طويل، ولم يكن لديه أطفال من صلبه، ولم يكن على علاقة جيدة بالدين الإسلامي.

وبلباسه الأنيق وتركيزه على الفخامة، كان مصطفى كمال يظهر أكثر وكأنه زعيم من العالم الغربي دخيل على تركيا. كما كان أسلوب حكمه للبلاد استبداديا، على الرغم من أن أجندته السياسية كانت تنادي بمبادئ التنوير والحداثة. في الحقيقة، قام مصطفى كمال بالقطع مع الموروث العثماني لأجداد الشعب التركي وألغى منصب السلطان، والخلافة العثمانية ومنع الكتابة بالحروف العربية، وكان متشددا في قيادته للبلاد وبعيدا عن شعبه.

وبالتحديد كان مصطفى كمال شخصا مستبدا ويمكن الاقتراب منه خاصة في الأوساط الدينية، إذ أن المتدينين في تركيا لم يكن لهم مكان في عالمه، وكان يتم إخضاعهم وإجبارهم على طاعته. وعلى مدى عقود، تم تدريس حياة وتاريخ مصطفى كمال أتاتورك والجمهورية التي أسسها لكل طفل في تركيا، وتلقينه هذه المعلومات، بينما كان يتم خنق وإقصاء كل صوت ينتقد أو يطرح الأسئلة.

من جهة أخرى، كان ذلك خطأ جسيما، إذ أن الاقتناع والإيمان بتلك الأفكار كان يجب أن يتم عبر الحجج والحوار وليس بالإكراه. كما كانت "النخب الكمالية" المستفيدة من النظام القائم تستخدم مبادئ أتاتورك كعقيدة يتم من خلالها فرض هيمنتها وتحقيق المكاسب، وهو ما جعل هذا النظام الحاكم يصبح مع مرور الوقت أكثر هشاشة وفراغا من الداخل. كما تمثل خطأ هؤلاء في أنهم لم يعيروا اهتماما للطابع الديني للمجتمع التركي والمجموعات المتدينة في البلاد، بل على العكس من ذلك كانوا يعاملونهم بشكل سيء ويضطهدونهم، إذ أن النساء المحجبات على سبيل المثال تم حرمانهن من الدراسة بسبب غطاء الرأس.

في الواقع، يرتبط نجاح أردوغان وتنامي شعبيته بشكل كبير بحقيقة كونه قد قدم نفسه على أنه شبيه بشخصية المواطن التركي البسيط، وهو ما أكسبه شعبية حتى في صفوف الأكراد المحافظين. فقد ترعرع أردوغان في حي شعبي في مدينة إسطنبول، ووصل إلى أعلى المراتب في السلطة على الرغم من العوائق والرفض الذي واجهه من قبل النخب الممسكة بزمام السلطة في ذلك الوقت في المجتمع وفي الجيش. ومن خلال ملابسه البسيطة وشنبه توجّه أردوغان للأتراك قائلا: "أنا واحد منكم، لقد جئت من عائلة بسيطة، ولا أبحث عن الفخامة والبذخ".

وعلى امتداد مسيرته السياسية، كان واضحا أن أردوغان لا يطمح فقط إلى أن يكون رئيس الوزراء الذي حقق القفزة الاقتصادية، بل أراد أيضا أن يحل محل "أب الأمة التركية" الذي لم يكن محبوبا جدا في الواقع. فقد قدم أردوغان نفسه للشعب في صورة الأب الجديد، وبالفعل بات أردوغان يلقب من قبل أنصاره بكلمة "الريس"، والتي تعني الزعيم. وتجدر الإشارة إلى أن هذه الكلمة تستعمل أيضا عند الحديث عن "رب العائلة".

يعدّ أردوغان شخصية قوية، وهو بمثابة الأب القوي الذي يوفر لشعبه الحاجيات الاقتصادية والنجاح خاصة من خلال قيامه بإصلاح نظام الرعاية الصحية وبناء الطرقات والمطارات. ولكن مع مرور الوق،ت بدأت شعبيته تتطور إلى أن أصبح البعض يضفون عليه هالة من القداسة والتعظيم، وهي نفس الصفة التي كان يكرهها في أتباع الكمالية.

والجدير بالذكر أن أردوغان قام بما يشبه القضاء على إرث مصطفى كمال، الأب السابق للأتراك، من خلال الوقوف ضد الجمهورية العلمانية التي أسسها، وإعادة تشكيل النظام السياسي بطريقة جديدة. كما أضفى أردوغان طابعا محافظا على البلاد، وهو ما جعله يواجه موجة من الغضب والرفض من قبل أنصار مصطفى كمال أتاتورك الذين شعروا بأن "أباهم" يتعرض للاحتقار وعدم التقدير.

في المقابل، يجب على أردوغان أيضا أن يخشى من ثورة أبنائه وبناته، خاصة بعدما واجه في فترات خلال السنوات الأخيرة مظاهرات ضده. ويعد حزب الشعب الجمهوري بقيادة كمال كيليدجار أوغلو أكبر طرف معارض لسلطة أردوغان في تركيا، إذ أن هذا الحزب الذي أسسه مصطفى كمال أتاتورك والذي يتبنى الدفاع عن الإرث الكمالي يناصب العداء لأردوغان. لكن هذا الحزب لا يمكن أن يكون بدوره بديلا عن حزب العدالة والتنمية لأنه يؤمن بالزعامة الفردية وبعودة أمجاد الماضي والحنين إلى أتاتورك.

لماذا يساند عدد كبير من أتراك ألمانيا أردوغان؟

هذا التعلق بشخصية أردوغان يمكن أن يعزى إلى التجارب المريرة التي عاشها هؤلاء الشباب في ألمانيا، حيث يشعرون بالوحدة وبأنهم تركوا ليواجهوا مصيرهم. وهذه هي الإجابة التي يمكن تقديمها لعدد كبير من الألمان الذين يطرحون في هذه الأيام تساؤلا مفاده: "لماذا يساند عدد كبير من أتراك ألمانيا أردوغان؟ ما هي الرسالة وما هو الخطاب الذي أقنعهم به؟".

بالنسبة للكثير من الأتراك المقيمين في ألمانيا، وخاصة من أبناء الجيل الثاني، عاش هؤلاء تجربة الحرمان والضياع، فقد ترعرعوا في ظروف اجتماعية واقتصادية سيئة في ألمانيا، وعانوا من خيبة الأمل ومن غياب الحماية لهم في هذا البلد الأجنبي. كما لم يكونوا يشعرون بالأمان، وكان يتم استغلال آبائهم في وظائف لا تدر دخلا كافيا، ولم يكن بمقدورهم حتى ضمان عيش كريم لعائلاتهم. كل هذه التجارب، أثرت على الشباب وجعلتهم ينظرون بعين التقدير والتعلق للزعيم أردوغان ويعتبرونه بمثابة الأب بالنسبة لهم.

وبسبب تجاربهم الذاتية في المهجر في ألمانيا، فإن الكثير من الأتراك يفهمون جيدا رسائل أردوغان ويهتمون بها، فهو يحدثهم عن الأحلام والطموحات الكبيرة، وعن تجاوز الآلام والخيبات، وعن تحقيق القوة والنجاح. بالإضافة إلى ذلك، يمنح أردوغان شعورا لأنصاره بأنهم جزء من مشروع كبير ويجعلهم يشعرون بالفخر والقوة. من جهة أخرى، تعد مشاريع البنية التحتية الضخمة التي تجري الآن في تركيا أكبر تعبير على هذا الطموح والشعور. كما أن الخطابات القوية والمهينة التي يوجهها أردوغان لألمانيا بين الحين والآخر، لن تؤثر على شعبيته بين أنصاره بل على العكس ستزيد من دعمهم ومساندتهم له. ففي لحظات غضبه عندما مهاجمته لألمانيا، يشعر الشعب التركي بأن يعبر بلسان حالهم.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس