جلال سلمي - خاص ترك يرس

شنّت فصائل الغوطة الشرقية ـ هيئة تحرير الشام وفيلق الرحمن بمؤازرة جزئية من جيش الإسلام ـ صباح 19 مارس/ آذار، هجمات مفاجئة في عمق أحياء دمشق الشرقية، تمكنّت خلالها من ربط "حي جوبر" بـ"حي القابون"، وفرض هيمنتها على "كراجات العباسيين" ومحيطها قبل إعادة النظام فرض سيطرته عليها. وقد أُطلِق على العملية اسم "يا عباد الله اثبتوا". وإلى جانب هذه العملية، تم تحرير بعض المناطق في القلمون الشرقي من سيطرة "داعش".

وفي إطار ما يمكن وصفه بالمؤازرة، شنَت ثلة من فصائل المعارضة، في 21 مارس/ آذار، سلسلة هجمات في ريف حماة، معلنةً عن انطلاق عملية "وقل اعملوا". وفيما تم استهداف بعض المواقع العسكرية التابعة للنظام السوري وروسيا في اللاذقية، يُتوقع أن تفتح المعارضة جبهة عسكرية تنطلق نحو اللاذقية.

تأتي عمليات المعارضة النوعية في ظل المساعي الدولية الهادفة إلى إيجاد مخرج للأزمة السورية عبر مفاوضات جنيف 5 التي انطلقت الخميس 23 مارس/ آذار، وعبر مشاورات "أستانا 4" المرتقب عقدها في مطلع مايو/ آيار المقبل، وهذا ما يطرح الكثير من التساؤلات عن حثيثيات العمليات وتداعياتها على العملية السياسية؟

بالتمعن في التطورات الجارية على الساحة السورية، نلاحظ أنها ظهرت للسطح عقب وجود أنباء عن رفع الولايات المتحدة يدها عن الغرفة الأمنية العسكرية التي تتألف من قسمين هما؛ "الموم والموك"، والتي تنظم الدعم الموجه من قبل الولايات المتحدة والدول الإقليمية لقوات المعارضة "المعتدلة". وهذا ما أدى، على ما يبدو، إلى ظفر قوات المعارضة باستقلالية منحتها إمكانية إصدار القرارات المتعلقة بمناطق ونوعية العمليات العسكرية الجديدة من بين ظهرانيها. كانت قرارات تحرك قوات المعارضة "المعتدلة" على الصعيد الميداني صادرة عن الغرف الأمنية العسكرية التي كانت تشرف عليها الولايات المتحدة كوصي يدير مستوى وكميات الدعم المقدم لقوات المعارضة من قبل الدول الإقليمية، كالأردن وتركيا والمملكة العربية السعودية وقطر، ولكن مع رفع الولايات المتحدة يدها عن هذه الغرف، ربما تحظى الدول الإقليمية، خاصة تركيا والمملكة العربية السعودية وقطر؛ تلك الدول التي يجمعها عدد من المصالح المشتركة في سوريا كضرورة سقوط الأسد، وقضم جذور النفوذ الإيراني في المنطقة، ببعض من الاستقلالية التي تدفعها لرفع مستوى دعمها وتحمل المزيد من المسؤولية في توجيه قوات المعارضة وتشجيعها على التحرك في عددٍ من الجبهات الجديدة. وعند النظر إلى التاريخ القريب، نجد أن الدول المذكورة قد تعاونت في تأسيس "جيش الفتح" في مارس/ آذار 2015، والذي تمكن  بتعاون تلك الدول من تحرير مدينة "إدلب". تقاسم النفوذ لا زال جارٍ في سوريا، والمتأمل في تطورات تقاسم النفوذ في سوريا يعي بأنه ينفي قسمًا كبيرًا من مصالحهم، أي مصالح تركيا والمملكة العربية السعودية وغيرهما من الدول الإقليمية، وهذا ما قد يدفعهم للاستمرار في تقديم دعم وفير لقوات المعارضة.

لا شك في أن هناك ضرورة لإدراك الحاجة الميدانية التي استدعت ضرورة فك الحصار عن "حي القابون" التي كانت قوات النظام على شفا دفعه للرضوخ لعملية "مصالحة وطنية". في الحقيقة هي مصالحة استسلام يعقبها "تهجير قسري" و"تغير ديموغرافي". وقد أثبتت هذه العملية نجاعتها في إيقاف عملية التهجير التي كانت قاب قوسين أو أدنى. كما أن قوات المعارضة، بعد إهمال عملية الحل السياسي للكثير من مطالب الثورة، باتت بحاجة ماسة لإحداث تقدم ميداني يزيد من رصيد تأثيرها في إرجاح كفة ميزان الحل السياسي لصالحها.

إن التعريج على قضية اقتناع المعارضة بضرورة العمل لإحراز تحركات ميدانية تعيد لها وزنها الذي خسرته بعد سقوط" حلب"، نقطة لا بد منها لاستيعاب حيثيات العملية. القلقلة الشعبية والنفور الاجتماعي ظاهرتان تم لمسهما في المناطق الخاضعة لسيطرة قوات المعارضة بعد سقوط حلب. ربما التفكك الفصائلي النابع عن التناحر الأيديولوجي حال دون توحد الفصائل المقاتلة في "حلب" قبل سقوطها الذي شكل صدمة لبعض هذه الفصائل التي وجدت أنه لابد من العمل المشترك للانتقال بشكل أقوى إلى مرحلة التحديث النوعي للعمليات العسكرية التي تُبقى على شرعيتها الشعبية وتأثيرها السياسي. قد يظهر للسطح بعض من المواجهات العابرة بين "هيئة تحرير الشام" وقوات المعارضة الأخرى، لكن هاجس رغبتهم في استرداد الدعم الشعبي ربما يمثل عاملًا ضاغطًا لإبقاء هذه المواجهات عابرة.

على الأرجح، إذا أخذنا في الحسبان تركيز قوات المعارضة المشاركة في عملية "يا عباد الله اثبتوا" على وجه الخصوص، على الدخول إلى بعض المناطق التي تصنف على أنها أعماق مدينة دمشق، وتحتضن أبناء الطائفة "المسيحية"، حينئذ يمكن الحديث عن قصد هذه القوات وضع الدعاية السياسية للنظام القائمة على الترويج لنفسه على أنه "حامي الأقليات والطوائف"، على المحك، فإن استهدف النظام هذه المناطق أصبح عُرضةّ للحرج الدبلوماسي الذي قد يُحرك الغرب الذي لم يتحرك حتى الآن بشكل فعال. وهذه القاعدة تضع النظام بين سندان الحفاظ على الدعاية السياسية، وبين مطرقة حاجته الماسة لاستهداف قوات المعارضة بالسلاح الجوي الذي مكنه من الصمود أمامها.

إن استمرار فصائل المعارضة في التصعيد هو السيناريو الأكثر رجوحًا وفقًا للمعطيات الحاضرة المتجلية في العوامل التالية:

ـ الدول الإقليمية الداعمة لقوات المعارضة، كتركيا وقطر والمملكة العربية السعودية وقطر، باتت ترى نفسها ومصالحها مستبعدة عن مسار الحل السياسي في سوريا، وهذا ما يزيد من احتمالية ارتكازها على رفع مستوى دعم قوات المعارضة، لاسترجاع وجودها المؤثر في المسارين الميداني والسياسي الخاصين بالأزمة السورية.

ـ الاستقلالية النسبية التي قد تحصل عليها قوات المعارضة بعد ابتعاد الولايات المتحدة عن دعم الغرفة الأمنية العسكرية المكونة من قسمين يعرفان اختصارًا "الموم والموك"، والتي ربما تمكنها من استجلاب أسلحة تكسر موازين القوى على صعيد ميداني. ولئن كانت معركة "دمشق" تحمل السمة الدفاعية الرامية إلى رفع الحصار عن بعض المناطق، فإن معارك الجبهات الأخرى تعكس السمة الهجومية.

ـ موازنة تحركات هيئة تحرير الشام؛ ربما ترمي بعض الدول الإقليمية إلى رفع دعمها المقدم لقوات المعارضة المعتدلة، لقلب التطورات لصالحها، إلى جانب موازنة تحركات هيئة تحرير الشام، للحفاظ على هيمنتها على توجيه مسار العلميات العسكرية بما يخدم مصالحها.

 السيناريو الثاني الذي يمكن توقعه نتيجة للعمليات العسكرية، هو إحراز هيئة تحرير الشام المزيد من السيطرة، وما يجعل هذا السيناريو مرجحاً للطفو على السطح العوامل التالية:

ـ تدني حجم الدعم الأمريكي المقدم لفصائل المعارضة المعتدلة، سيؤدي إلى تضاؤل الهيمنة الميدانية لقوات المعارضة المعتدلة، وقد يزداد هذا التدني في حال لم تعوِض القوى الإقليمية هذا التدني الذي سيرغم بعض الفصائل الصغيرة على الانضواء تحت لواء هيئة تحرير الشام لضمان استمرار دعمها.

ـ استماتة هيئة تحرير الشام على إظهار تحركات ميدانية وأخرى سياسية تظهرها على أنها الأجدر بالحصول على الدعم العسكري والسياسي من قبل القوى الإقليمية، وأنها الممثل الحقيقي والأقوى للثورة السورية، مما يجعلها أقرب إلى أفئدة الشعب السوري، وأروقة غرف الدول الإقليمية الداعمة للثورة السورية.

في العموم، فإن هذه التطورات تعكس عودة حروب الوكالة بثقلها الواسع إلى الساحة السورية، وإن استطاع النظام صد قوات المعارضة المقتحمة لبعض المناطق التي تقع على مقربة من "دمشق"، فإن زخم هذه العمليات التي طرأت على السطح بعد ورود أنباء عن قطع الولايات المتحدة الأمريكية دعمها عن الغرفة الأمنية العسكرية "الموم والموك"، قد يكسب المعارضة الاستقلالية التي تجعلها قادرة على استجلاب أسلحة مضادة للطيران، والأيام القادمة كفيلة بإفراز بعض من التطورات المتوقعة.

عن الكاتب

جلال سلمي

صحفي وباحث سياسي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس