متين غورجان - المونيتور - ترجمة وتحرير ترك برس

مكّن استفتاء تركيا الذي أجري في 16 أبريل/ نيسان الرئيس، رجب طيب أردوغان، من بدء تحول هيكلي في جهاز الدولة في طريقه إلى الرئاسة التنفيذية. والسؤال الجوهري الآن هو أي اتجاه تسلكه تركيا في الفترة المقبلة. تدل رحلات أردوغان الأربعة الأولى بعد الاستفتاء، وكلها رحلات إلى الشرق، على توجه جديد. بعد زيارته الهند من 30 أبريل إلى الأول من مايو/ أيار، سافر أردوغان إلى سوتشي يوم 3 مايو لإجراء محادثات مع نظيره الروسى، فلاديمير بوتين، ثم زار الكويت فى 8 مايو قبل التوجه إلى الصين بعد أقل من أسبوع  للاجتماع مع الرئيس الصيني، شي جين بينغ، وحضور قمة التعاون الإقليمي.

وفي الوقت نفسه، تلقت أنقرة ضربة قاسية من واشنطن. فعلى الرغم من الاعتراضات التركية القوية، اتخذت الإدارة قرارا بتوريد الأسلحة الثقيلة إلى وحدات حماية الشعب الكردية السورية، حتى دون انتظار لقاء أردوغان مع الرئيس دونالد ترامب في 16 مايو.

وبعد قرار واشنطن، أصبحت موجة الأوروآسيوية في تركيا أكثر وضوحا. ويبدو أن المنظور الأوروآسيوي الآن يتجاوز المناقشات السريعة، ويكتسب عمقا فكريا ومؤسساتيا. ومن المرجح أن يقوى هذا الاتجاه إذا أدى اجتماع أردوغان الحاسم مع ترامب وقمة الناتو التي ستعقد في 25 مايو في بروكسل، إلى خيبة أمل كبيرة لأنقرة. فما هي السمات الأساسية والأشكال المختلفة المتنافسة لهذا المنظور؟

من المهم أن نضع في الحسبان أن الرؤى الأوروآسيوية في أنقرة لا تنبع فقط من أردوغان. فعلى مر السنين حظيت هذه الرؤى بمكانة بارزة في بيروقراطية الدولة، والقطاع الأمني، ومراكز الفكر والأوساط الأكاديمية. وبالتالي، فإن أولويات سياسة أردوغان الاستراتيجية الخارجية هي شرط ضروري، ولكنها ليست كافية لفهم هذا المنظور.

بادئ ذي بدء، ينبغي أن نلاحظ أن هذا الاتجاه الصاعد أكثر وضوحا في السياسة الخارجية والدفاع والأمن منه في الحياة الاقتصادية والاجتماعية. وقد بدأت مراكز التفكير التركية مثل معهد أنكا، ومعهد القرن الحادي والعشرين في تركيا، ومركز الدراسات الاستراتيجية في الشرق الأوسط، والمركز التركي الآسيوي للدراسات الاستراتيجية، ومعهد التفكير الاستراتيجي في التعبير على نحو متزايد عن فكرة أن الغرب يزداد سوءا، وقد حان الوقت لتركيا للتوجه نحو الشرق.

يستند المنظور الأوروآسيوي إلى الافتراضات الأساسية التالية:

- إن المركز الجيو- اقتصادي والجيوستراتيجي في العالم يتحول على نحو متزايد إلى الشرق، كما تقول أطروحة "صعود البقية"، وهذا يعني أن تركيا أصبحت بلدا مركزيا.

- لم يعد النظام العالمي الذي يهيمن عليه الغرب قادرا على حل المشاكل الأمنية العالمية.

- إن الاندماج السياسي والأمني مع الغرب يسحب تركيا نحو معاهدة سيفر جديدة، لذلك تحتاج عملية  "تغريب" تركيا التي دامت قرنين إلى مراجعة نقدية جدية.

- سقطت المنظمات الدولية في الغرب مثل الاتحاد الأوروبي الذي يربط بين أيدي تركيا من الناحية الجيو-اقتصادية، ومنظمة حلف شمال الأطلسي، التي تفعل الشيء نفسه من الناحية الجيوستراتيجية، في أزمات هيكلية.

- إن العولمة، التي يستفيد منها الغرب على نحو غير متناسب، تخلق أوجه عدم مساواة كبيرة، ومن الواضح أن تركيا أصبحت في مقدمة الصدام بين الرأسمالية العالمية وهياكل الدولة الوطنية.

- إن حلف الناتو والولايات المتحدة والدول الأوروبية قد أضروا جميعها بشرعية الحدود التركية مع سوريا والعراق، بإحجامهم عن تأييد تركيا في حربها على الإرهاب. ونظرا لأنهم لم يعودوا يهتمون بمخاوف تركيا الأمنية، فإن أنقرة بحاجة إلى وضع رؤيتها الاستراتيجية الخاصة اعتمادا على قوتها.

وللمنظور الأوروآسيوي أربعة أشكال مختلفة يمكن تلخيصها على النحو التالي:

- المنظور الأوروآسيوي المؤيد لروسيا: المُروّج الرئيس لهذا الشكل هو الجماعة المتحلقة حول حزب الوطن برئاسة دوغو برينجيك، وهو حزب صغير ولكن عالي الصوت، ويعمل بوصفه اللوبي الروسي الحقيقي في البلاد. ووفقا لوجهة نظر هذه الجماعة، تحتاج تركيا اليوم إلى تحالف مع روسيا، على غرار التعاون المناهض للإمبريالية مع السوفييت في أيام كمال أتاتورك. وتقول هذه الجماعة إنه يتعين على تركيا أن تقيم تعاونا وثيقا مع روسيا، الزعيم الطبيعي للكتلة الأوروآسيوية، في مجالات السياسة الخارجية والدفاع والأمن. ولتحقيق ذلك، يجب أن تتخلى تركيا عن وصاية الناتو، التي فرضتها كتلة الدفاع الغربية على تركيا، وأن تتخلص من القيود الأمريكية على مسائل الدفاع والأمن.

- المنظور الأوروآسيوي التركي: هذا الشكل له وجهة نظر عابرة للقوميات وغير متشددة. وهو يرفض التحالفات لا مع الغرب فحسب، ولكن أيضا مع روسيا، التي يعدها عدوا تاريخيا لا يمكن أن تكون أبدا صديقا لتركيا. ووفقا لرؤية أصحاب هذا المنظور فإن تركيا تحتاج إلى انفتاح سريع على آسيا الوسطى لتأمين دعم الجمهوريات التركية في المنطقة، وبناء تحالف قائم على جذور عرقية مشتركة يمكن توسيعه بعد ذلك إلى الشرق الأوسط تحت قيادة تركيا.

- الأوروآسيوية الإسلاموية:  يرى أنصار هذه الرؤية أيضا أن تركيا لا تحتاج إلى الغرب ولا إلى روسيا، بل يشيرون إلى الإرث العثماني والإسلامي لتركيا طريقا بديلا. ويمضي هؤلاء في حجتهم إلى أن الماضي العثماني لتركيا والهوية الإسلامية تملي عليها دورا عالميا لا فكاك منه، ويتعين عليها أن تتولى هذا الدور، عاجلا أو آجلا. يدعم مؤيدو هذا المنظور" رؤية الأمة العالمية" لتركيا التي يعتقدون أنها الدولة الوحيدة التي يمكن أن تصبح القوة الدافعة لنظام جديد للعدالة، وخاصة في العالم السني. ويقولون إن العالم السني بقيادة تركيا يمكن أن يوازن بين الغرب من ناحية وروسيا والصين من ناحية أخرى.

- الأوروآسيوية الأردوغانية:  في هذا الشكل، ينظر إلى قيادة أردوغان الكاريزمية بوصفها العامل الرئيس لضمان استمرارية الدولة، وتعزيز الترابط بين الدولة والأمة، وخاصة منذ محاولة الانقلاب الساقط في العام الماضي. يقول مؤيدو هذه الرؤية إن الغرب يكره أردوغان لأنه زعيم قوي. ويعتقدون أن أردوغان يمكن أن يحل معظم مشاكل الشرق، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط. وبفضل قيادته أكدت تركيا نفسها على الساحة العالمية، مهددة المصالح الأمريكية والأوروبية. وتعد  قيادة أردوغان - التي وصفت بأنها "تحولية" و"تستند إلى أرضية أخلاقية" - تحديا وتمردا على النظام العالمي المتمركز في الغرب، وهو ما انعكس بشكل أفضل في تأكيده على أن "العالم أكبر من خمسة".

ومن السمات المشتركة للرؤى الأوروآسيوية الأربعة أنها جميعا تنبع من شكل من أشكال التفكير التفاعلي، يهدف إلى "إحباط لعبة الغرب". ومن ثم لا يمكن القول إنها نضجت ووصلت إلى اقتراح نموذج جديد للسياسة الخارجية لتركيا والرؤية الاستراتيجية.

هل كانت رحلات أردوغان إلى الهند وروسيا والكويت والصين رسالة إلى الولايات المتحدة قبل اجتماعه مع ترامب؟ هل كان أردوغان يحاول أن يظهر أن لديه بعض الأوراق الرابحة القوية؟ أم  كانت الرحلات علامة على محرك أوروآسيوي حقيقي؟ هل المصالح الاقتصادية فقط هي من تحرك التوجه التركي الأوروآسيوي، أم أنه يشير إلى تغيير هيكلي في سياسة تركيا الخارجية ورؤيتها الاستراتيجية؟ وإذا كانت أنقرة جادة في مستقبل أوروبي آسيوي، فأي الأشكال الأربعة سوف تفوز في نهاية المطاف؟ كيف يؤثر صراع القوة المتصاعد بينهما على جهاز الدولة؟ ومن المرجح أن تظهر في الأسابيع المقبلة الأدلة الأولى على هذه الأسئلة الحاسمة.

عن الكاتب

متين غورجان

محلل أمني وعسكري. عمل مستشارا عسكريا في السفارة التركية في كل من أفغانستان وكازخستان وقيرغزستان فيما بين 2002-2008


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس