أحمد طلب الناصر - خاص ترك برس

منذ تسلّم البعث السلطة في دمشق، وعائلة الأسد على وجه الخصوص، وقضية لواء إسكندرون تشكّل عقدة انفصام تاريخية في العلاقات السورية التركية. تخبو كلما تحسّنت العلاقات بين النظامين، وتعود لتطفو على السطح كلما ساءت العلاقة بينهما لتشكّل ما يشبه قميص عثمان بيد النظام السوري، يلوّح به على الشعب السوري كلما أصيب بـ "زنقة" سياسية داخلية أو خارجية، شأنه كشأن الجولان السوري الذي باعه في العام 1967 وزير الدفاع، آنذاك، حافظ الأسد لإسرائيل لقاء تسلّقه واغتصابه البلد بعد 3 سنوات.

ما أذكره، خلال سنين حياتي الدراسية، قبل الجامعية، أن منهاجي التاريخ والجغرافيا الذي درسناه كانا قد تغيرا 3 مرات على أقل تقدير بما يتعلّق بقضية اللواء، ففي كتب التاريخ مثلاً كان النظام تارة يتّهم نظام أتاتورك التركي في ثلاثينيات القرن الماضي بأنه المسؤول الأول والأخير عن "سلب" اللواء، وتارة أخرى يصب اتّهامه على فرنسا التي كانت تستعمر سوريا بالتواطؤ مع الأول ومنحته اللواء لقاء مكاسب سياسية لها في المنطقة، وذلك بالطبع حسب تبدّل علاقات النظام السوري بالأتراك من جهة وبالفرنسيين من جهة، وتارة ثالثة كان يطرح قضية اللواء بدون الإشارة بشكل مباشر إلى أيّ منهما، بل وشهدت فترة حكم الأسد الابن استثناء إقليم اللواء من الخارطة السورية منذ تسلّمه البلد في سنة 2000 حتى قيام الثورة السورية 2011 نتيجة تحسّن علاقاته بالنظامين التركي والفرنسي، ليعود النظام بعدها ويضيفه إلى الخارطة في الكتب الجغرافيّة بعد وقوف الأتراك مع ثورة ومطالب الشعب السوري ضد الطغمة الحاكمة.

لواء اسكندرون، الموقع والامتداد

يقع لواء إسكندرون على خليج إسكندرون وخليج السويدية في الزاوية الشمالية الشرقية للبحر الأبيض المتوسط، وكان سابقا في أقصى شمال غربي سوريا، ويتصل من الشرق والجنوب الشرقي بمحافظتي إدلب وحلب، ومن الجنوب بمدينة اللاذقية، ومن الشمال بمحافظة غازي عنتاب التركية، وهو الآن في جنوبي تركيا.

ضمته تركيا عام 1939 بعد أن "تنازلت" لها عنه فرنسا أيام احتلالها سوريا، واعتبرته محافظة تركية، وأطلقت عليه اسم "محافظة هتاي"، وهو يتكون من ست مدن رئيسية هي: أنطاكيا (عاصمة المحافظة)، وإسكندرون، وأوردو، والريحانية، والسويدية، وأرسوز.

تبلغ مساحة لواء إسكندرون 4800 كيلومتر مربع، ويتكون من تضاريس مختلفة يغلب عليها الطابع الجبلي، وأشهر جباله الأمانوس والأقرع والنفاخ وجبل موسى، كما يضم سهولا خصبة أهمها سهل العمق، وتمر منه أنهار العاصي والأسود وعفرين.

يبلغ تعداد سكان لواء إسكندرون مليوناً و533 ألفا نسمة، أغلبيتهم العظمى من المسلمين السنة (وفق الإحصائيات التركية لعام 2015)، وتتوزع أعراقهم على العرب والأتراك والشركس والأكراد مع أقلية من الأرمن.

اللواء تاريخياً

يعود تاريخ الحياة في لواء إسكندرون إلى العصر البرونزي بين عامي 1800 و1600 قبل الميلاد، وكان جزءا من إمبراطورية الحثيين منذ القرن الـ17 وحتى عام 1490 قبل الميلاد حين بسط قدماء المصريين سلطانهم عليه، ثم تناوبت على حكمه عدة أمم، بينها السريان والفرس.

شهدت مدينة أنطاكيا -كبرى مدن اللواء- تطورا عمرانيا كبيرا منذ عام ثلاثمئة قبل الميلاد، واتخذها الرومان عاصمة لحكمهم في سوريا عام 64 قبل الميلاد، إلى أن فتحها المسلمون عام 16 للهجرة، فتعاقب عليها الحكمان الأموي والعباسي، قبل أن يسيطر عليها الطولونيون عام 877م ثم الحمدانيون.

وقع لواء إسكندرون في قبضة البيزنطيين مجددا خلال الحملة الصليبية عام 969م، وتحولت أنطاكيا إلى إمارة مهمة أدار الصليبيون منها هجماتهم على المشرق الإسلامي، قبل أن يستردها المسلمون المماليك في مايو/أيار 1268م.

ضمها السلطان سليم الأول للحكم العثماني عام 1516م وألحقها بولاية حلب، وظلت خاضعة للحكم العثماني حتى عام 1918م حين وقعت تحت حكم الاحتلال الفرنسي لسوريا مع نهاية الحرب العالمية الأولى.

وفي 29 مايو/أيار 1937 أصدرت "عصبة الأمم" قراراً بفصل لواء إسكندرون عن سوريا وعُين عليه حاكم فرنسي، وفي 15 يوليو/تموز 1938 دخلت القوات التركية مدن اللواء وتراجع الجيش الفرنسي إلى أنطاكية، وفي 1939 نظم الفرنسيون استفتاءً في الإقليم أيد المشاركون فيه الانضمام إلى تركيا.

وإثر اندلاع الثورة السورية عام 2011 ظهر في المناطق السورية القريبة من منطقة لواء إسكندرون تنظيم مسلح موالٍ للنظام السوري بقيادة بشار الأسد، ويسمى "المقاومة السورية-الجبهة الشعبية لتحرير لواء إسكندرون".

ويتزعم التنظيم أحد أبناء الطائفة العلوية يدعى "علي الكيالي"، واسمه الصحيح معراج أورال، الذي لقي حتفه على يد فصائل "أحرار الشام" في آذار/ مارس 2016. ويُتهم بتدبير عدة مجازر بحق الشعبين السوري والتركي، أهمها مجزرة البيضاء التابعة لمدينة بانياس في محافظة طرطوس الساحلية السورية في الثاني من مايو/أيار 2013، وتفجير مدينة الريحانية التركية في 11 مايو/أيار 2013.

وبالعودة إلى التاريخ مرة أخرى، بما يخصّ الدولة السورية ككل، نلاحظ أن حدودها التاريخية السياسية قد تبلورت بُعيد اتفاقية سايكس-بيكو 1917 التي يرفضها أساساً نظام البعث "القومي العربي" ولا يزال يندّد بها حتى اللحظة، رغم أنها –سوريا- كانت قبل وخلال عقد الاتفاقية تقع ضمن سيطرة السلطنة العثمانية بألويتها وسناجقها منذ معركة "مرج دابق" 1516م، وقبل ذلك كانت تخضع لسيطرة المماليك، وقبلهم الأيوبيين والزنكيين والسلاجقة والفاطميين والحمدانيين، والخلافتين العباسية والأموية، وقبلهما الراشدية منذ معركة اليرموك. وفي كل تلك المراحل، الإسلامية، كان يطلق على سوريا تسمية "الشام" بصورتها الكلية التي كانت تضم، بالإضافة إلى سوريا الحالية، لبنان وفلسطين والأردن. وقبل كل ذلك، كما ذكرنا آنفاً، كانت تتبع للبيزنطيين وقبلهم الرومان فالمقدونيين قبلهم. وخلال جميع المراحل السياسية التي خضعت لها سوريا لم تكن لها حدود جغرافية واضحة المعالم إلا ضمن الدولة الواحدة المركزية المهيمنة، التابعة للعنصر المسيطر، ففي فترة الرومان مثلاً كانت سوريا تابعة لروما، التي كانت حدودها من بريطانيا إلى الحبشة، وفي فترة البيزنطيين كانت تتبع للقسطنطينية، وفي الفترة الراشدية كانت تتبع للمدينة المنورة، وفي ظل الأمويين كانت تتبع لدمشق، وعند العباسيين كانت لبغداد، وتحت حكم الفاطميين والأيوبيين والمماليك كانت تابعة للقاهرة.. وهكذا حتى أصبحت تتبع في زمن العثمانيين إلى إسطنبول التي كانت مركز الامبراطورية الممتدة من البلقان إلى الجزائر منذ أواسط القرن السادس عشر وصولاً إلى نهاية الحرب العالمية الأولى 1918، ما يعني 400 عام. 

وإذا ما تجاهلنا سايكس- بيكو التي قسّمت "الشام والعراق" إلى منطقتين داخليتين تخضعان لسلطة أبناء الشريف حسين، ومناطق حمراء تابعة للانكليز (جنوب العراق حتى سواحل الخليج العربي) وأخرى زرقاء تتبع الفرنسيين (كيليكيا والساحلين السوري واللبناني) وكل تلك المناطق كانت تتبع سياسياً وإدارياً لسلطة العثمانيين طيلة 400 عام، وإذا ما استثنينا فترة استعمار فرنسا لسوريا (1920- 1946)، وجئنا إلى الفترة الممتدة من "الاستقلال" حتى الوقت الراهن، مع الإشارة إلى مرحلة عبد الناصر وتابعية سوريا للقاهرة 1958-1961، سيتبادر على أذهاننا سؤال بسيط جداً وجوهري جداً: خلال كل تلك المراحل التاريخية التي سردناها، والحدود الجغرافية التي رافقتها، متى كان اللواء تابعاً لسلطة مركزية "سوريّة" فعلية؟ أو بالأحرى متى كانت سوريا، كاملة، تتمتع باستقلالية مركزية خلا تلك السنوات الضئيلة في خمسينيات القرن العشرين والتي لم تسلم أيضاً من انقلابات العسكر!؟

 يأتي البعض من منظّري الأيديولوجية القومية العربية أو البعث، متناسياً التاريخ، ليطالب باللواء ويدّعي أنه تابع لـ "الجمهورية العربية السورية" وخاصة في ظل نظام عائلة الأسد، بحجّة أن معظم سكانه من العرب ويتحدثون اللغة العربية، فهل كان يقبل هذا المُنظّر، في أوقات سابقة، أن تطالب تركيا بمدينة كركوك العراقية أو جبل التركمان في سوريا المنطقتين اللتان يقطنها التركمان، الذين يتحدثون التركية بطلاقة بل ويعتبرون الأجداد التاريخيين للأتراك؟! وهل يقبل أيضاً أن يرسم الأكراد دولتهم في شمال سوريا بحجّة الأكثرية الناطقة بالكردية؟! وبعيداً عن المنطقة، هل باستطاعة أي إسباني المطالبة بأمريكا اللاتينية بحجّة أن أصول معظم شعوبها من الإسبان وينطقون باللغة الإسبانية؟!

خلاصة

الدول المنتصرة تاريخياً، وليست أنظمتها الطارئة على الشعوب، هي وحدها التي تمتلك حق رسم وامتلاك الجغرافيا، واستثمار جميع القوانين والأعراف الدولية المتاحة للحفاظ على تلك الجغرافيا وإدارتها. ولنا في صعود وهبوط الامبراطوريات، الأوروبية والعربية والمغولية والعثمانية، عبرة في ذلك، والشاطر منها هو من استطاع استغلال العوامل الثلاثة لتشكّلها: التأسيس، والانتشار، والحفظ. وعندما يُراد للسوريين أن يكونوا أقوياء بما فيهم الكفاية وأن يحموا أنفسهم في دولة مواطنة حقيقية وديمقراطية على غرار ما يتوفر للعرب والكورد والأتراك الذين يعيشون في لواء الاسكندرون، باستطاعتهم آنذاك أن يفرضوا استفتاءً جديداً حول اللواء، ليدركوا حينها أن الندب والبكاء على الأطلال و"منطلقات البعث النظرية" التي نخرت أدمغتهم، لن تجرّ عليهم سوى كراهية الآخر، وجلد الذات.

عن الكاتب

أحمد طلب الناصر

كاتب وصحفي سوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس