خورشيد دلي - العربي الجديد 

بقدر ما أظهر الانقلاب العسكري الفاشل قبل سنة، صلابة تركيا، حكومة وأحزابا وشعبا، في رفض مبدأ الانقلابات العسكرية، وفي التمسّك بالديمقراطية، بقدر ما أظهرت لحظة ما بعد الانقلاب جدل الديمقراطية والنموذج والخيارات السياسية. وانطلاقا من هذا الجدل، اتخذ مسار الأمور في مرحلة ما بعد الانقلاب الفاشل اتجاهين. الأول: شن أكبر حملةٍ ضد المتورّطين في الانقلاب وتحديدا في صفوف الجيش والأطراف المدنية المتورطة معه، ولا سيما جماعة فتح الله غولن، بما أدى كل ما سبق، إلى إعادة ترتيب منظومة المؤسسة العسكرية وأولوياتها ووظيفتها ودورها في الحياة السياسية. الثاني: في كيفية تحويل اللحظة الوطنية التي ظهرت، عقب الانقلاب، إلى نوع من المصالحة بين حزب العدالة والتنمية (الحاكم) وأحزاب المعارضة، وهو ما لم يتحقق إلى الآن، بل إن معطيات الواقع توحي بحالةٍ من الانقسام السياسي والاجتماعي في بلدٍ يعاني أصلا من إشكالية الهوية، منذ قرّر مؤسس الجمهورية التركية، مصطفى كمال أتاتورك، إبعاد تركيا عن بنيتها الحضارية، وإلحاقها بالغرب، تحت عناوين التحديث والعصرنة.

في الحديث عن الانقلابات العسكرية في تركيا، لا بد من التطرّق إلى العلاقة بين العسكر والسياسة في تركيا، إذ إنها علاقة عضوية، نشأت حتى قبل تأسيس الجمهورية التركية عام 1923، فالانقلاب العسكري الأول جرى عام 1908، عندما خلع ضباط جميعة الاتحاد والترقي السلطان عبد الحميد الثاني، وزجوا البلاد في الحرب العالمية الأولى، إلا أن علاقة العسكر بالسياسة توطدت، واتخذت شكلها الدستوري في عام 1924، عندما وضع مصطفى كمال أتاتورك معادلة في أول دستور للجمهورية، مفادها: "الجيش يحمي الدستور، والدستور يحمي الجيش"، وأصبحت هذه المعادلة ثابتةً في الدساتير التي وضعها الجيش، وقد تجلت بشكل كبير في دستور عام 1982 عقب الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال كنعان إيفرين عام 1980.

في بنية العقيدة العسكرية 

ثمّة قناعة في عقيدة المؤسسة العسكرية التركية أن الجيش هو الأب الحقيقي والشرعي للدستور، ففي دستور عام 1982 أكثر من مائة مادة وبند بشأن دور الجيش في الحياة العامة للبلاد، لعل أهمها وأخطرها المادة 35 التي كانت تقول "إن وظيفة القوات المسلحة هي حماية الوطن ومبادئ الجمهورية التركية". وقد شكلت هذه المادة المدخل القانوني الذي اعتمده الجيش في الانقلابات العسكرية السابقة التي قام بها (1960 – 1971 – 1980 – والانقلاب الأبيض ضد نجم الدين أربكان عام 1997 - وصولا إلى الانقلاب العسكري الفاشل منتصف يوليو/ تموز2016). ثمّة اعتقادٌ بأن طبيعة عقيدة الجيش التركي هذه تعود إلى مجموعة من الأسباب والعوامل، لعل أهمها: 1- نشأت عقيدة المؤسسة العسكرية التركية على أساس أنها ضد التعدّد القومي (الكردي) والهوية الدينية (الإسلام)، على الرغم من تجذّر الأخيرة في حياة البلاد وهويتها. وعليه، ظل الجيش بالمرصاد لهذين الأمرين طوال العقود الماضية، وقد تجسّد ذلك في سلسلة الانقلابات العسكرية السابقة، والتي كانت تحصل عادةً في ذروة صعود البعدين السابقين إلى سدّة المشهد السياسي التركي. 

2- ظلّ الجيش التركي، وانطلاقا من موقعه الذي كان يدير منه البلاد من خلف الستار، في عزلةٍ عن الحياة العامة والمجتمع، وقد ترتبت على هذه العزلة ذهنيةٌ مغلقة، حملت معها على الدوام هاجس الانقلاب على من يود الحدّ من دوره في الحياة العامة، وفي صدام مع الحراك المدني والحزبي.

3- فشلت جهود المجتمع المدني السابقة في تغيير ذهنية الجيش وعقيدته، إذ لم تنل جميع الجهود التي بذلت في هذا الصدد، من عقيدته، خصوصا وأن المناهج التي تدرس في الكليات والمعاهد الحربية ظلت تغذّي رؤيته السابقة في النظر إلى السياسة والمجتمع على شكل ثقافةٍ فوقية على حساب الديمقراطية وحقوق المواطن والتحول المدني. 

حزب العدالة والجيش 

ثمّة عوامل داخلية وخارجية خدمت حزب العدالة والتنمية في وصوله إلى السلطة عام 2002، ومن ثم سعيه الحثيث إلى إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية التركية، في إطار رؤية رجب طيب أردوغان لتركيا المستقبل. فإذا كان الحزب استفاد من قواعد اللعبة الديمقراطية، والتحولات الاجتماعية في الداخل التركي، للوصول إلى السلطة، فإنه نجح، بشكل كبير، في تحويل خطواته التكتيكية إلى استراتيجيةٍ، أوصلته إلى سدة الرئاسات الثلاث (الجمهورية – البرلمان – الحكومة) ليبدأ حملة تغييراتٍ وإصلاحاتٍ نجحت تدريجيا في تقويض دور الجيش، وإبعاده عن الحياة العامة للبلاد. ولعل ما ساعد أردوغان على تحقيق هدفه هذا، جملة من العوامل، أهمها: 

1- طرح حزب العدالة والتنمية نفسه حزبا ديمقراطيا محافظا، يستطيع التوفيق بين الإسلام والعلمانية والاقتصاد، وهو ما أثار دعم الغرب له، بوصفه نموذجا إسلاميا مرنا قادرا على ضبط معادلة القوى السياسية في المنطقة، عقب أحداث "11 سبمتبر" في العام 2011، قبل أن تتغير هذه المعادلة على وقع التطورات التي شهدها العالم العربي على وقع ثورات الربيع العربي. 

2- اتخذت عملية تفكيك قبضة المؤسسة العسكرية على الحياة العامة في تركيا شكل الإصلاحيات المطلوبة لبدء مفاوضات الانضمام إلى العضوية في الاتحاد الأوروبي، على أساس تحقيق معايير كوبنهاغن. وهو بهذا السلوك نال دعم الاتحاد الأوروبي من جهة، ومن جهة ثانية، وضع الجيش في زاويةٍ حرجةٍ على اعتبار أن مطلب العضوية الأوروبية في الأساس مطلب أتاتوركي (مصطفى كمال أتاتورك)، فضلا عن أنه مطلب شعبي لتحقيق المعايير الديمقراطية والرفاه الاقتصادي. ولذلك، لم يستطع الجيش المجاهرة في رفض هذه الإصلاحات، ولو لحساب دوره التاريخي. 3 - اتخذت خطوات أردوغان الآليات الدستورية والقانونية المتاحة، وبشكل تدريجي، وهي ركزت على إعادة هيكلة المؤسسة العسكرية وفق أطر دستورية وتشريعية. وبعد نجاحه في إخراج مجلس الشورى العسكري الأعلى من قبضة الجيش لصالح الحكومة المدنية، وإبطال المفعول الإلزامي لقراراته، وجعلها من اختصاص الحكومة، ركّز على إخراج الجيش من الدستور، عبر إلغاء البنود والمواد التي كانت تعطيه صلاحياتٍ واسعة، وقد نجح، في النهاية، عبر هذه الاستراتيجية ليس في إخراج الجيش من الدستور، بل وضع العسكر خلف القضبان في مشهدٍ غير مألوف في التاريخ التركي. وبذلك، انتهت تلك المعادلة التاريخية التي كانت تقول إن الدستور يحمي الجيش، والجيش يحمي الدستور. 

ما بعد الانقلاب الفاشل

إذا كانت لكل ديمقراطية محاسنها وعيوبها، انطلاقا من خصوصية التجربة والهوية والقيم الاجتماعية والثقافية والفكرية، فالثابت هنا ألا تكون هذه الديمقراطية في الموقع المضاد للحرية والثقافة والحقوق الأساسية للفرد وخيارات المجتمع. 

برزت في التجربة العملية لممارسة الديمقراطية في تركيا تجربة صندوق الاقتراع مدخلا للوصول إلى السلطة والانتقال السياسي، لكن الوقائع أثبتت أن هذا المدخل وحده غير كافٍ كي تكون ممارسة الحكم ديمقراطية، خصوصا لجهة المفاهيم. ولعل تجارب حكم كثيرة جاءت عبر صناديق الاقتراع انتهت إلى أنظمة شمولية ودكتاتورية، لأنها ابتعدت عن ممارسة الديمقراطية.

فمهما كانت نتائج صناديق الاقتراع، لا ينبغي أن يتحول الحكم الديمقراطي إلى حكم نظام الحزب الواحد والرجل الواحد الذي يعتقد أنه مصدر كل السلطات، وأن على الجميع أن يشتقّ منه القرار. تبدو تركيا، بعد فشل محاولة الانقلاب العسكري في منصف يوليو/ تموز 2016، أمام مشهدٍ خطر جدا، إذ لم يعد خافيا أن مشروع حزب العدالة والتنمية الذي قام على التوفيق بين الديمقراطية والإسلام والاقتصاد اتجه نحو تكريس سلطة الحزب الواحد والرجل الواحد، فحملة الاعتقالات والإقالات والإقصاء طاولت مختلف المؤسسات العسكرية والأمنية والحركات والأحزاب والجامعات والقضاء والتعليم والصحافة والصحافيين. وقد درى ذلك كله، ويجري، في ظل حالة الطوارئ وقوة قانون الطوارئ، وهو ما جعل من عملية إعادة هيكلة الدولة ومؤسساتها كأنها عملية مسخرة لصالح المشروع السياسي للحزب الحاكم، وليس الدولة كمفهوم.

وعليه، فإن شكل إعادة الهيكلة الجارية تبدو كأنها تسير عكس العملية الديمقراطية، ولعل من شأن ما سبق بقاء العسكر في الموقع المضاد للديمقراطية والتشبث بالذهنية المغلقة والعقيدته العسكرية السابقة، وكلها مرتكزاتٌ لبقاء هاجس الانقلاب العسكري حاضرا من جهة. ومن جهةٍ ثانية، فإن هذا المسار يكرس لصدام في الشارع، على حساب المصالحة الداخلية المنشودة، وحل القضايا المزمنة كتلك من نوع القضية الكردية، حتى لو كان حكم حزب العدالة والتنمية في ذروة قوته.

عن الكاتب

خورشيد دلي

صحفي سوري من مواليد:1967, حاصل على إجازة في الصحافة من جامعة دمشق عام 1991.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس