زكريا كورسون - ذا بينينسولا قطر - ترجمة وتحرير ترك برس 

شهدت أزمة الخليج، التي أثارتها الولايات المتحدة وتصاعدت مع حصار أربع دول تقودها المملكة العربية السعودية على قطر منذ حزيران/ يونيو، تغيرات كبيرة منذ بدايتها.

ما تزال هذه الأزمة دون حل ،ولا ينبغي توقع التوصل إلى حل فوري لها. تضم الأزمة أطرافا متعددة لها مطالب مختلفة، وهو ما أدى إلى تداعيات عالمية، وليس إقليمية فقط.

أدت العقوبات الواسعة التي وضعت حتى قبل تجهيز قائمة المطالب الموجهة إلى قطر، وإخفاق النظام الدولي في تناول المشكلة في بدايتها بجدية، وتبنيه نهجا متعاطفا تقريبا مع مطالب الدول الأربع، إلى الوضع الحالي الذي أصبحت فيه المشكلة مستعصية على الحل.

وقد نوقشت المشكلة بإسهاب. ولكن  ما لم يتحقق رغم التغطية والاهتمام الواسعين هو ما اكتسبته الأطراف المعنية أو أخفقت في تحقيقه من هذه الأزمة وحتى ما فقدته، فضلا عن نوع الدروس التي يمكن استخلاصها من العملية.

من الطبيعي أن التوصل إلى إجابات على قضية مستمرة ليس أمرا، ولكن هناك بعض التلميحات التي أتاحت لنا إجراء عدد من التقديرات.

الجهات الفاعلة الرئيسة: الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية

بعد خروج دونالد ترامب من عملية انتخابية بالغة التوتر، كانت المملكة العربية السعودية وجهة زيارته الأولى في الخارج، وعندما عاد إلى الوطن حاملا مكسبا ب 400 مليار دولار، أثار الأزمة.

وعلى الرغم من أنه من الممكن تحديد المحرض الجزئي في كل أزمة بتمييز المستفيد منها، ففي هذه المرة خرجت الولايات المتحدة الخاسر على المدى الطويل، على عكس ما كان يعتقد كثيرون في البداية. لم تكن المعايير المزدوجة للولايات المتحدة واضحة جدا في نظر شعوب المنطقة مثلما هي الآن. يدرك كبار صناع السياسة في الولايات المتحدة  تراجع هيبتهم، ولذلك فقد اتخذوا إجراءات فورية بإرسال رسائل إلى الخليج  تتجاوز البنتاغون ووزارة الخارجية في محاولة لتصحيح صورتهم.

وفي الوقت نفسه فعّلوا صفقة قديمة مع قطر لبيع أنظمة الدفاع الجوي. وكخطوة أولى، أيدت الولايات المتحدة بيع طائرات مقاتلة بقيمة 30 مليار دولار إلى قطر التي أُعلن أنها عدو للولايات المتحدة  سواء بالكلمات أو الأفعال في الخليج.

لا يوجد أي مفهوم للسياسة الخارجية وضعه الأكاديميون الأميركيون لفهم المناورات التي تجري في النظام العالمي الجديد بعد الحرب العالمية الثانية قادر على شرح توجه الولايات المتحدة إلى اتخاذ مثل هذه الإجراءات المتسرعة وحتى محاولاتها لتغيير المسار في كثير من الأحيان.

ويمكننا القول بأن هذا النوع من السلوك لن تتسامح معه المجتمعات الشرقية العاطفية، بل سيخلق أثرا ارتداديا على المدى الطويل.

وعلى الرغم من أن المملكة العربية السعودية، كما يبدو، هي من أثارت الأزمة في المقام الأول، ينبغي لنا أن ندقق في مستوى الوعي في الخطوات التي اتخذتها طوال الأزمة، وهي مسألة ظلت ذات أهمية أيضا طوال الوقت. ونحن نتساءل عما إذا كانت السعودية قد شنت هجوما "نفسيا تاريخيا" على قطر، وهي امتداد لمنطقة المملكة العربية السعودية نفسها، حيث تحاول  قطر أن تجعل وجودها محسوسا وقائما بشكل مستقل عن المملكة العربية السعودية والتوازنات الإقليمية التي أنشأتها أيضا المملكة العربية السعودية.

وقد نوقشت هذه الأسئلة جزئيا حتى الآن،ولكن من المؤكد أنها ستناقش أكثر في المستقبل. ومع ذلك، لا نكاد نجد أحدا يعبر عن حقيقة أخرى دفعت السعودية إلى اتخاذ هذه الخطوة في المقام الأول.

كان قانون العدالة ضد رعاة  الإرهاب "جاستا" الذي أقره الكونغرس الأمريكي في مايو 2016، في الواقع وسيلة الرئيس السابق باراك، أوباما،  لابتزاز المملكة العربية السعودية في محاولاته لإرضاء ضحايا هجمات 11 سبتمبر وكذلك الجمهور الأمريكي و لزيادة شعبيته قبل أن ينهي فترة ولايته .

ينص قانون جاستا  على معاقبة الأجانب / الدول الأجنبية التي دعمت العمليات الإرهابية ضد المواطنين الأمريكيين. وعلاوة على ذلك، تغطي المادة 7 مباشرة أحداث 11 سبتمبر / أيلول. في تلك الأيام، سُرب إلى وسائل الإعلام  أن التقارير التي وضعت في الدوائر الدولية تستهدف بالفعل المملكة العربية السعودية. وعلى الرغم من أن الأسباب الحقيقية وراء هجمات 11 سبتمبر ظلت لغزا، وهل يقف وراءها رعاة سعوديون، فإن حقيقة أن مرتكبيها من السعوديين يدل على أن هذا القانون مرر لاستهداف السعودية مباشرة.

ومن بين أسباب التوتر بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة خلال ولاية أوباما هذه النقاشات التي جرت وراء الأبواب المغلقة. وهذا هو السبب في أننا لا نرجم بالغيب عندما نفترض أن السعودية رغبت بشدة في أن يصبح ترامب الرئيس الأمريكي المقبل، لأن السعوديين بدؤوا يعتقدون أن هذه العملية سوف تصبح أسهل في تناولها خلال رئاسة ترامب.

وللمرة الأولى في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، تعرض مرشح للرئاسة للتحقير بصورة لم يسبق لها من قبل الرئيس الحالي وجميع من حوله مستخدمين جميع سلطاتهم لتحقيق هذه الغاية. لذلك تصورت  السعودية أنه إذا انتخب ترامب، فقد يكون أكثر مقاومة من غيره للقوانين التي صدرت خلال ولاية سلفه.

كانت تلك حسابات صحيحة ، فبعد انتخابه مباشرة اتخذ ترامب موقفا معارضا لبعض القوانين التي صدرت في عهد أوباما وكانت تهم المواطنين الأمريكيين، وأعطى هذا الموقف الأمل للمملكة العربية السعودية.

لكن ما أخفق السعوديون في توقعه هو أن قانونا مثل جاستا لا يمكن إزاحته بسهولة. ووفقا لبعض المحللين، فإن هذا القانون يتضمن مطالبة السعودية بما يقرب من تريليون دولار. وليس من الصعب أن نتصور أن هذا المبلغ كان شريحة المساومة الأمريكية الرئيسية خلال زيارة محمد بن سلمان للولايات المتحدة لتهنئة الرئيس الجديد على انتخابه، وخلال زيارة  ترامب إلى الخليج.

وبالوعد بشراء أسلحة وذخائر بقيمة 400 مليار دولار، تجنبت السعودية في الوقت الراهن دفع التعويض الذي كان عليها أن تدفعه نتيجة الابتزازات المتعلقة بقانون جاستا ومن الضغوط التي تعرضت لها، وأوقفت في الوقت نفسه خطر العزلة عن المجتمع الدولي.

لكن قانون جاستا كان سيفا مسلطا  فوق رؤوسهم، تماما مثل سيف ديموقليس الذي يمكن استخدامه في أي وقت. ولذلك افتتح نموذج إقليمي للجاستا، أي مركز مكافحة الأفكار الراديكالية في احتفال كبير أمام أعين العالم بأسره. وسريعا ما عثر على كبش فداء: قطر التي صارت مشاكلها مع السعودية بالغة الوضوح  منذ عام 2012، والتي حاولوا " تأديبها"  بمهلة الثمانية أشهر في عام 2014، والتي وصفتها بعض القوى الإقليمية  بأنها " المجرم المحتمل".

ومن المثير للاهتمام أن تغريدة ترامب التي كتبها وهو في طريق عودته من زيارة الخليج وقال فيها : "خلال رحلتي الأخيرة إلى الشرق الأوسط، ذكرت أنه لم يعد هناك تمويل للأيديولوجية الراديكالية، فأشار القادة إلى قطر" تعد موقفا ينتهك جميع قواعد المجاملة المعمول بها في العلاقات الدولية، الأمر الذي زاد من تصعيد الأزمة.

ربما تمكنت دول مجلس التعاون الخليجي  خلال أزمة 2014 من البحث عن حلول من خلال التعامل مع المشكلة في الوقت المناسب، وكان من الممكن بذلك أيضا أن تتجنب السعودي مزيدا من الضغوط، ولكن دول الخليج أوقفت الخطة اعتمادا على ترامب، وأطلقت الحصار المستمر الذي لم يسفر حتى الآن عن نتائج.

تعتقد المملكة العربية السعودية والبحرين والإمارات التي دعمت التحركات المضادة في كل المجالات التي تشارك فيها قطر بنشاط منذ الربيع العربي، والحكومة المصرية، التي بقيت حتى الآن بفضل الدعم المشترك من دول الخليج أنها ستنتزع انتصارا سهلا.

ولم تسع الدول الأربع إلى تحقيق مكاسب دولية فحسب، بل كانت تسعى أيضا إلى إرسال الرسائل الصحيحة إلى مجتمعاتهم. ولكن اتضح أن هذه البلدان، وكل منها لديها مجموعة مختلفة من المطالب والتوقعات، لم تكن موحدة بين بعضها بعضا.

الجهات الفاعلة الجانبية: تركيا وإيران

أكدت أزمة الخليج أيضا أن حل أي مشكلة إقليمية ليس ممكنا من دون دولتين مسلمتين معينتين هما الفاعلان الرئيسيان في النظام الإقليمي العربي، ويمكن عدهما  قوى إقليمية غير عربية ،لكنهما يمثلان تقاليد مختلفة، وهما تركيا وإيران.

ساهمت تركيا إسهاما كبيرا في تهدئة الأزمة بما أبدته من تصميم، وبالسياسة المتوازنة التي اتبعتها منذ بداية الأزمة، فضلا عن الإسراع في تطبيق عدد من الصفقات العسكرية من شأنها أن تعزز السلام الإقليمي. وقد أعاد هذا بدوره لتركيا، وخاصة في سياق الخليج، الشعبية التي فقدتها منذ عام 2012 في نظر الجمهور الإقليمي بسبب حملات التشهير المختلفة ضدها.

وعلى الرغم من الجرعة الكبيرة من العداء في الخليج ضد تركيا التي ما تزال تتصاعد في  وسائل التواصل الاجتماعي ووراء الأبواب المغلقة من خلال مختلف اللوبيات، فإن دور الوساطة التركي وموقفها الموثوق مقبول تقر به المجتمعات المعنية إلى حد كبير اقتناعا منها  بأنه لا يمكن أن يكون هناك مستقبل في المنطقة بدون تركيا.

ومن ناحية أخرى نرى أن إيران، وإن كانت تتعرض للاستهداف من كثيرين ، لم تمارس السياسات العدوانية والتصعيدية التي تنفذها عادة في أوقات الأزمات، وفضلت التمسك بخط أكثر واقعية. وهذا الموقف، بالطبع، لا يقضي على جميع المشاكل التي أثارتها إيران أو المشاكل التي هي طرف فيها في المنطقة، ولكنه يشير إلى أنها يمكن أن تصبح شريكا في الحل في الأزمات المقبلة. وهذا الموقف لن يفلت من اهتمام الجيل القادم من قادة الخليج، وسيسمح لهم بتطوير سياسات أكثر تعاونا في هذه المنطقة، التي سيشاركونها لسنوات عديدة قادمة.

أبعاد الأزمة: التناقضات بين العلاقات العالمية والإقليمية

أثبتت أزمة الخليج / قطر مرة أخرى أن الإجراءات التي تحركها القوى العالمية في السياسة الدولية لا تأتي دائما بالنتيجة المتوقعة،وأن العلاقات الإقليمية لا تقل أهمية عن العلاقات العالمية.

والواقع أنه قد أصبح من المفهوم الآن في هذه الأزمة أن قطر قد وضعت جميع سياساتها منذ عام 1995 حول هذا المحور. وقد ثبت أن الدعوى القائلة بأنها "تأخذ حجما أكبر من حجمها"  خاطئة إلى حد كبير.

ومن ناحية أخرى، من المؤكد أن قطر قد عانت كثيرا في هذه العملية، حيث تقوضت نظرة المساواة التي حققتها في النظام الدولي،على الرغم من كونها دولة صغيرة، وتراجعت هيبتها تراجعا خطيرا، ناهيك عن الخسائر الاقتصادية وخططها المستقبلية المشوشة حاليا. ولكن في المقابل أتيح لقطر لأول مرة الفرصة لاختبار السياسة التي وضعتها بنفسها. وعلاوة على ذلك، حققت قطر دعما سريعا في الداخل، مما يثبت أن إدارة الأمير تميم جاءت لتبقى.

عملت  قطر أيضا على تعزيز مكانة أميرها الشباب في هذا النظام، وهي في الواقع صغيرة جدا بالنسبة للتقاليد الإدارية الخليجية التي يتوقع  دائما الالتزام بها في دول مجلس التعاون الخليجي ،وجعلته عاملا لا غنى عنه في جميع شؤون الخليج. وهكذا استبعد الجدل الذي ثار  حول فارق العمر بين الملوك / الأمراء القدامى والشبان، عندما تولى الأمير تميم في عام 2013.

والواقع أن هذا الوضع أفضى إلى التنافس بين قادة الخليج الأصغر سنا في المستقبل. وعندما أصبح محمد بن سلمان وليا للعهد، والملك شبه المتوج، بدأ الدفع بمحمد بن زايد من وراء الستار ليكون في المقدمة.

سيشكل هذا الجيل الشاب من القادة  في المستقبل القريب معظم قادة الخليج إلى جانب الجيل القديم الراغب في التدخل في شؤون الدولة. وسيكون الأكثر تأثرا بهذا الاتجاه محمد بن سلمان نظرا لكبر الأسرة الحاكمة. وبنفس الطريقة، فإن تأثير إمارة أبوظبي التي تحظى بالاحترام والاعتراف من قبل جميع الإمارات التي تشكل دولة الإمارات العربية المتحدة، وعائلة آل نهيان، العنصر المؤسس لهذه الإمارة، سيكون موضع شك.

ومن بين هؤلاء القادة الشباب،اكتسب أمير قطر ميزة كبيرة. ومع ذلك، يبدو من الصعب عليه الحفاظ على هذه الميزة بنفسه. وعلى ما يبدو، فإن الأمير تميم أشار إلى أنه سيبنى علاقاته مع أوروبا على أساس أكثر توجها نحو الاستثمار بدلا من عقلية "الدولة الريعية" الحالية. كما أنه يأخذ علاقاته مع تركيا إلى مستوى جديد كليا.

لقنت أزمة الخليج درسا مهما للدول الإقليمية، وأثبتت مرة أخرى أن الولايات المتحدة لم تعد تحكم العالم وحدها. وعلى الرغم مما ظهر حتى الآن من تجاوز الدول الإقليمية  بحق بعضها بعضا على المدى القصير، فقد سمح لها  ذلك بتقدير الحقائق الخاصة بها فضلا عن واقع "الآخر"، الذي هو أيضا طرف في هذه المشكلة.

وقد أثبتت تجارب هذه الدول أن ثقافة الأزمة ليست حلا لأي شيء.هناك حاجة لفترة أطول من المعتاد لإنهاء هذه الأزمة بسبب الأسباب النفسية الناجمة عن العاطفية التي تغلب على سياسات المجتمعات الإقليمية، ولكن الدروس المستفادة تبرز واحدة تلو الأخرى.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس