أحمد طلب الناصر - خاص ترك برس

لم يكن في بال سلاطين بني عثمان التوسع في بلاد المسلمين جنوب الأناضول، والاصطدام معها، قبل السلطان سليم الأول، وذلك لانشغالهم بفتح أوروبا "المسيحية" وإخضاع الدول التي شكّلت تهديداً لحدود الدولة الناشئة لا سيما بعد فتح القسطنطينية وسقوط الإمبراطورية البيزنطية على يد الفاتح 1453.

ولو كان بنيّة السلاطين إخضاع البلاد العربية، العراق والشام والحجاز ومصر والمغرب، لسلطتهم، لكانوا فعلوا ذلك قبل توجههم لأوروبا، خاصة وأن شعوب تلك البلاد هم من المسلمين الذين لا يشكلون تهديداً لكيان دولتهم، والذين سيستقبلون ذلك التوسّع بدون مقاومة كتلك التي عند الأوربيين "المسيحيين"، كما وأنهم سيشكلون الحاضنة الشعبية للدولة العثمانية المسلمة.

إذاً، ما الذي دفع بالسلطان سليم للتوجه صوب المشرق العربي والتوسع فيه؟ ولماذا توجّه نحو العراق، الأبعد جغرافياً، قبل توجهه إلى الشام، الأقرب والمتاخمة لحدود دولته؟

 السبب الأول والرئيسي يتجلى في الصراع "الشيعي – السني" خاصة بعد ظهور دولة "الشاه اسماعيل الصفوي" في إيران، واحتلالها العراق ، ومحاولتها نشر المذهب الشيعي فيه وفي شرق الاناضول، ما أثار حفيظة العثمانيين الذين قاموا بمحاربتهم دفاعاً عن المسلمين "السنة" وانقسام الدولة الإسلامية.

أما السبب الثاني، فيكمن في أن المماليك الذين كانوا يسيطرون على الحكم في الشام ومصر والحجاز بزعامة "قانصوه الغوري" فتحوا بلاطهم ملجأً للمتمردين على السلطنة العثمانية، وهو ما أثر سلباً على العلاقات الدولية بين الطرفين وساهم في توسيع الهوة بينهما.
كما وأن المماليك وقفوا من الصراع العثماني السني مع الدولة الصفوية الشيعية موقفا متخادلاً، بل حالوا دون مرور الجيش العثماني على أراضيهم، أيام توجهه لمحاربة الشيعة مما أدى إلى نظرة السلطان العثماني نظرة عداء تجاه المماليك.
والسبب الثالث، هو أن المماليك لم يعودوا يشرفون العالم الاسلامي من الناحية السياسية خاصة بعد هزيمتهم امام البرتغال في البحر الأحمر وخليج عدن والسواحل الهندية، وصارت شعوب المناطق الخاضعة لسلطة الماليك تتذمّر وتطالب العثمانيين بإنقاذهم من هيمنة هذه الدولة المنهارة، وهذا جعل تفكير العثمانيين جاداً في استرجاع الهيبة السياسية للمسلمين.

إذاً، كل تلك الأسباب، مجتمعة، دفعت السلطان سليم إلى التوجه صوب الشام 1516م.

 وبمقارنة تلك الأسباب بما يحدث اليوم في سوريا، نجد تطابقاً عجيباً بينها، فاليوم:

إيران تسيطر على سوريا والعراق سياسياً وطائفياً من خلال تحالفها مع نظامي الأسد وبغداد.
التنظيمات الإرهابية المتموضعة على حدود تركيا الجنوبية، المتمثلة بـ "بي كي كي" و"يي بي جي" و"بي يي دي" وداعش وغيرها، تشكّل تهديداً مقلقاً ومستمراً لأمن تركيا، داخلياً وخارجياً.
الدمار الذي لحق بالدولة السورية جرّاء نظامها الوحشي، ما حوّلها إلى دولة مفككة وفاشلة، تداعت عليها كل قوى العالم الغربي، وباتت تشكّل خطراً محدقاً يطوّق كل الدول الإقليمية لا سيما الدولة التركية الناهضة، اقتصادياً وعلمياً وعسكرياً، وأضحت مركزاً إسلامياً عالمياً في ظل حكومة العدالة والتنمية.

ونتيجة اعتداءات أميركا وحلفائها، والروس، والإيرانيين، ونظام الأسد، والميليشيات الطائفية، والمنظمات الإرهابية، ضاق السوريون ذرعاً بالموت والدمار المحدق بهم، وصاروا يطلبون الخلاص والاستقرر، خاصة بعد يقينهم التام بتآمر المجتمع الدولي على إجهاض الثورة السورية ومساندة بشار الأسد في حربه ضدهم، إضافة إلى الفوضى التي تعاني منها الفصائل المسلحة في إدارة المناطق المحررة، عسكرياً وسياسياً ومدنياً، والتخبط وقلة التدبير الذي تعاني منه مؤسسات المعارضة السورية ما أدّى إلى فشلها في تمثيل الشعب السوري أو انتزاع اعتراف من المجتمع الدولي، المتآمر أصلاً ضده.

وأمام جميع تلك الخيارات المطروحة، كان لا بد من التدخّل التركي مؤخراً لإنقاذ الموقف في إدلب. كما سبق وفعلت تركيا في "درع الفرات" حين بددت آمال الانفصاليين في اقتطاع كامل الشمال السوري وتهجير أهله وتهديد كامل الحدود التركية الجنوبية.

إدلب، تلك المدينة التي أراد نظام الأسد وحلفاؤه جعلها محرقة للثوار وما تبقى من فصائل الجيش الحر بعد تهجيرهم بالباصات الخضر وتجميعهم فيها، ومن ثم إطلاق العنان لتنظيم القاعدة ليصول ويجول في المحافظة، لتقديم المسوّغ المناسب لإبادتها وإبادة أهلها تحت غطاء "القضاء على الإرهاب".. تمكنت تركيا في اللحظات الأخيرة من الحؤول دون تحويلها إلى موصل أو رقة أو ديرالزور أخرى، وهذا لوحده كفيل بأن يُشعر الثوار السوريين المتواجدين فيها، والذين نزحوا إليها من كافة المدن السورية، بالأمان والاستقرار، والقوة أيضاً.

نعم، لا شك بأن تركيا الحالية، كما الدولة العثمانية في السابق، تعمل ضمن إطار سياستها الخاصة، ولمصلحة وجودها وشعبها، ولكن ليس على حساب تهجير أهل المنطقة وتدميرهم والقضاء عليهم، كما فعلت وتفعل بقية الأطراف على الأراضي السورية الآن، بدءاً من نظام الأسد مروراً بإيران وروسيا، وصولاً إلى أمريكا وحلفائها مع داعش.

تركيا الآن تحتضن ما يفوق 4 ملايين سوري على أرضها، يسكنون بيوتها، ويعملون في معاملها ومشافيها ومدارسها، ويأكلون من طعامها، ويشربون من مائها، ولهم حقوقهم وعليهم واجباتهم، ويمارسون كافة حرياتهم الدينية والمدنية والسياسية، وجزء منهم نالوا وينالون الجنسية التركية، أضف إلى كل ذلك.. للسوريين الحق في العودة إلى بلادهم متى وكيف شاؤوا، وقد شهدت مناطق درع الفرات عودة الكثير من أهلها بمجرد عودة الحياة والازدهار إليها، ولا توجد منطقة في الداخل السوري تنعم بالهدوء والأمن وانعدام العمليات العسكرية كما تنعم بها مدن الدرع، فما المانع في أن تصبح إدلب مثلها؟

والحال، يبدو أن بعض ممّن يحسبون أنفسهم على الثورة السورية، ما زالوا يردّدون أقاويل وخزعبلات نظام الأسد دون أن يشعروا، ويتبنون حقده وافتراءه التاريخي والطائفي ضد الأتراك والعثمانيين، الذي بثّوه في عقولهم طيلة حكم البعث وعائلة الأسد، باللاوعي، حين أبدلوا اسم "المنقذ" ليغدو "محتلاً". 

عن الكاتب

أحمد طلب الناصر

كاتب وصحفي سوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس