عبد الله الشيخ ديب - خاص ترك برس

لم تكتف بعض القوى والنخب المُدجنة بتلميع صورة الولايات المتحدة الأمريكية خلال فترة الربيع العربي عبر التركيز على "المحليّ" في تحليلها لمشاكل وأزمات منطقتنا، ونفي أي دور للسيد الغربي في خلق وتعزيز هذه الأزمات والمآسي ودوره في تفتيت مجتمعاتنا وتحويل بلادنا إلى معتقلات ضخمة ومقابر جماعية، بل وصل الأمر ببعض تلك النخب لإعادة تقديم أمريكا بوصفها صاحبة مهمة "تمدينيّة" فاضلة، وقبل أن يُتم "الوكلاء" مهمتهم جاء القرار الأمريكي بالاعتراف بالقدس عاصمة للكيان الصهيوني، لتُظهر أمريكا وجهها الحقيقي مجددًا، ذلك الوجه الإمبريالي القبيح.

يمكن القول إن موقف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هو الأكثر اتساقًا وشفافية مع جوهر الموقف الأمريكي من كل قضايانا في المنطقة، وأن بعض النُخب والقيادات العربية التي اعتبرت موقف ترامب "مستغربًا"، يؤكد لنا أن هذه النخب والقيادات لم تفهم بعد النظرة الأمريكية للقضية الفلسطينية، ولم تفهم تعقيدات المسألة الفلسطينية، وكيف يرى الغرب الاستعماري الحركة الصهيونية، هذا في حال إحسان الظن بهذه القيادات والنخب، إن لم نتحدث عن حالة تواطؤ ما بين هذه القيادات والقوى الاستعمارية، حيث حاولت بعض النخب السياسية والثقافية التذاكي عبر مقاربة القرار من خلال الخلاف الحاصل داخل الإدارة الأمريكية منذ تسلم ترامب لمهامه، هذا التفسير المحمل ضمنًا بمحاولة إنكار تواطؤ أمريكا وانحيازها ودعمها الكامل والتاريخي للكيان الصهيوني ضد قضايا الأمة.

الحديث عن القضية الفلسطينية لا يمكن أن يكتمل دون الحديث عن المسألة العربية؛ لكونها إحدى أهم المسائل المتشابكة والمتداخلة بالقضية الفلسطينية، وفي بداية حديثنا عن المسألة العربية فمن الجيد تأكيد نقطة رئيسية مفادها أن الأنظمة العربية لم تتبن القضية الفلسطينية من منطلق مبدئي، بل كأداة ووسيلة ولم تكن هدفاً أو غاية قط، وأن المبدأ الوحيد الثابت للأنظمة العربية هو النفوذ والسلطة والبقاء في السلطة، وتجلى هذا الموقف بوضوح أكبر بعد الربيع العربي، وبالأخص موقف النظام السوري، الذي تاجر كثيراً بالقضية الفلسطينية، واستطاع كسب شريحة من الجمهور العربي المحب لفلسطين وللمقاومة، إذ تبين أن النظام السوري ليس معنياً لا بفلسطين ولا بالفلسطينيين، وهكذا رأينا جميعاً كيف تحولت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" إلى حركة خائنة وعميلة بالنسبة للنظام السوري بمجرد الخلاف معها، ومن المواقف الطريفة هنا والتي يجدر التذكير بها  هي تلك الحفاوة التي كان يحظى بها الدكتور عزمي بشارة من النظام السوري وإعلامه ورجالاته بوصفه مناضلاً فلسطينياً ومثقفاً عروبياً، وكيف تحول عند أول خلاف إلى متآمر وعميل صهيوني! هذا يثبت بشكل قاطع أن نظام الأسد الأب والابن لم يكن معنيًا بفلسطين بيوم من الأيام، وما كانت فلسطين إلا ورقة يكرسها لأغراض سياسية، وما أن يصبح على خلاف مع قياداتها أو غير قادر على استثمارها، فلن يتورع أبداً عن إلقاء التهم والأباطيل، بل وإلقاء البراميل وانتهاج سياسة الحصار والتجويع بحق الفلسطينيين، كما يفعل في مخيم اليرموك .

وفي المسألة العربية أيضًا، لا يفوتنا التذكير بأن حالة التشظي العربي أطلقت خلافات حادة جدًا، كانت هذه الخلافات تترجم عبر الطرق الدبلوماسية سابقًا، اليوم ومع ثورة وسائل التواصل، انتقلت هذه الخلافات إلى ساحات فيسبوك وتويتر ورأينا كيف تحولت هذه الخلافات إلى صراعات متحللة من أي ضابط ديني أو أخلاقي وصلت حد الطعن في الأصول والأعراض، ولأن القضية الفلسطينية في صلب قضايانا العربية، فهي سرعان ما تتحول إلى حلبة صراع، كلما اشتعلت وطفت على السطح مجددًا.

موقف ترامب الأخير، أربك بعض الأنظمة العربية، لا من حيث إنه قرار صادم ومفاجئ، بل طريقة الإعلان وهذه الصلافة، التي تهز ما تبقى من شرعية هذه الأنظمة، وتهدم ما تبقى من مصداقيتها وهيبتها أمام شعوبها، فالعدو الآن واضح، ومن أصدر القرار معروف، لكن رجالات هذه الأنظمة أضعف من أن يتعاملوا بوصفهم ملوكا وزعماء دول ضد فاعل بثقل ترامب، وأقل من اتخاذ أي رد حقيقي ضد هذه الخطوة، هنا تولت بعض النخب "المخابراتية" دورها في تشويش بوصلة الشعوب وتزييف الوعي والحقائق، فبدأت بالعزف على سمفونيات صهيونية مهترئة من نوعية "الفلسطينيين باعوا أرضهم"، ثم أطلقت الجيوش الإلكترونية "المخابراتية أيضًا" حملة قذف وطعن ضد القدس وفلسطين والفلسطينيين، وحتى نقطع الطريق على هذا "الذباب الإلكتروني"، نقول ليس جميع الفلسطينيين فدائيين ومجاهدين ومناضلين ومقاومين، ولا الفلسطينيون يقولون ذلك عن أنفسهم، نعم هناك حفنة من الخونة و"المتأسرلين" بل والمتصهينين أيضًا، هذا ليس وضعًا استثنائيًا، عرف الخونة منذ بدء الخليقة، ولا يمكن أن يكون ابتعاد الناس عن الحق مبررًا للانحياز إلى الباطل، وخيانة البعض، لا تبيح الوقوف مع الصهاينة المجرمين، ولا تعني الوقوف على الحياد، ذلك أن الحياد هنا هو تجرد من الأخلاق بالضرورة، مختصر الحديث هنا أن من يخذل قضية فلسطين فقد تخلى عن إسلامه وعروبته وإنسانيته.

وفي الختام، لا بد من القول بأن القدس، تذكرنا بأننا واقعون تحت احتلال مركب؛ يبدأ بهذه الأنظمة الاستبدادية، وينتهي بالغرب صاحب اليد العليا على وكلائه من الحكام، إن القرار الأمريكي الأخير أشبه بدعوة مفتوحة لكل قوى التحرر في المنطقة وبالأخص الفلسطينية والسورية منها للنظر في مآلات عملية السلام والشرعية والاتفاقات والضمانات الدولية، إذ إن ما أعلنه ترامب، حقيقة، هو سقوط النظام والمشروع العربي، وما على القوى الحية والفاعلة الراغبة في التغيير في منطقتنا اليوم إلا أن تعي أن حدود سايكس بيكو تشكلت ورسمت سابقًا على ورق، أما خرائط اليوم تُشكل وترسم بالدم.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس