محمد شيخ إبراهيم – خاص ترك برس

لطالما كان الجيش التركي يستمد نفوذه باعتباره الركيزة الأساسية للفتوحات والحروب، تلك الفكرة التي ترسَّخت إبَّان عهد الدولة العثمانية التي قامت بفتوحات واسعة في أوروبا وآسيا وأفريقيا، وبقي الأمر على هذا الحال إلى أن بدأ عصر ضعف الدولة وتقهقرها الذي وصل إلى ذروته في الحرب العالمية الأولى التي أدَّت إلى القضاء على الدولة العثمانية وتقاسم تركتها الكبيرة بين الدول الغربية المنتصرة.

وبمخاض عسير تمت ولادة النظام الجمهوري في تركيا في عشرينيات القرن الماضي وقد تزامن ذلك بتغيير إيديولوجي جذري يقوم على عَلْمَنَةِ الدولة أو ما كان يسمى بالمبادئ الكمالية نسبة إلى مصطفى كمال أتاتورك الذي كرَّس السلطة المطلقة التي لا تقبل الآخر مستفيدا من قيادته للجيش الذي رسَّخ فيه تقاليد الجيش العقائدي الذي يؤمن بعقيدة ومبادئ أتاتورك العلمانية، واستطاع أتاتورك أن يجعل من الجيش حاميا للعلمانية ومبادئها، وقاد عملية تحوُّل شاملة وعميقة تغلغلت داخل النسيج الإجتماعي والثقافي التركي الذي كان بالأمس جزءًا من الثقافة الإسلامية المحافظة، وكان أتاتورك جريئاً بإلغاء الأسس الدينية السائدة في الدولة والمجتمع لدرجة وصلت إلى طمس جميع القيم والرموز التي تربط تركيا بعالمها الإسلامي، فتم إلغاء عبارة أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة من الدستور التركي، واستبدالها بعبارة علمانية الدولة التركية، وألغى منصب شيخ الإسلام، ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، والمحاكم الشرعية، والمدارس الدينية، ونقل العاصمة من إسطنبول التي كانت رمزاً وعاصمة للخلافة الإسلامية العثمانية إلى مدينة أنقرة، واستفاد أتاتورك من الدعم الغربي الخفي له الذي ما فتئ يتربص ويكيد بالدولة العثمانية حتى قضى عليها وقوَّضها بالحرب العالمية الأولى.

بقيت المؤسسة العسكرية هي المسيطرة على الحياة السياسية التركية حيث كان قادة الجيش على الدوام يتحينون الفرصة تلو الأخرى للقيام بالانقلاب على السلطة المدنية وتعطيل العملية السياسية بالبلاد لدرجة أن تركيا اشتهرت في فترة ما على أنها دولة الانقلابات العسكرية، وعزز القادة العسكريون نفوذهم وسيطرتهم على مقاليد الحكم والحياة السياسية في البلاد عقب انقلاب 1960 الذي أدى لإعدام رئيس الوزراء التركي عدنان مندريس بحجَّة أنه كان يسعى وحزبه لتقويض النظام العلماني وأسلمة الدولة التركية، وقامت المؤسسة العسكرية حينها بتأسيس ما سُمِّي بمجلس الأمن القومي الذي كان بمثابة حكومة عميقة تدير البلاد إلى جانب حكومة مدنية شكلية ذات صلاحيات محدودة حيث كان هناك مستشار عسكري لكل وزير، وقد استمر نفوذ الجيش باعتباره حامي العلمانية إلى عام 2003 حين تم إقرار البرلمان التركي بقيادة حزب العدالة والتنمية لبعض التعديلات الدستورية والقانونية التي أدت لتغيير تركيبة مجلس الأمن القومي ليكون ذا غالبية مدنية، كما قلَّصت التعديلات من صلاحيات المجلس ليتحول إلى مجرد مجلس استشاري ليس له صلاحيات تنفيذية، ومنذ ذلك التاريخ بدأت تركيا تتحول شيئا فشيئا من دولة مضطربة يحكمها العسكر إلى جمهورية مدنية تديرها حكومة مدنية منتخبة، الأمر الذي لم يرُق لقادة الجيش إذ قامت المؤسسة العسكرية منذ أن استلم حزب العدالة والتنمية الحكم في تركيا بالعام 2002 بخمس محاولات انقلاب كان أهمها وأخطرها المحاولة الانقلابية الفاشلة بتاريخ 15 تموز/ يوليو 2016.

خلال فترة حكم حزب العدالة والتنمية استطاع الحزب بجمهوره الكبير وقاعدته الشعبية الواسعة التي منحته الأغلبية في البرلمان أن يدخل تعديلات جذرية على الدستور وبعض القوانين وذلك على التوالي في الأعوام (2002 - 2004 -2010 - 2011 - 2017) لكن أهمها كان التعديلات الأخيرة سنة (2017) التي أدخلت تعديلات جوهرية حول مفاهيم الحقوق والحريات الأساسية، والديمقراطية، وحرية الاعتقاد، وإعادة هيكلة الدولة، والتحول من النظام البرلماني المزدوج إلى النظام الرئاسي.

ومن الجدير بالذكر أن من إنجازات حكومات حزب العدالة والتنمية هو بلورة وتوطيد النظام الجمهوري، وإعادة هيكلة الجيش، وترويض المؤسسة العسكرية والحد من تأثيرها على الحياة السياسية في البلاد، والتزام الجيش داخل ثكناته العسكرية، ولعل من أبرز ما قام به حزب العدالة والتنمية في هذا المجال منعا لأي محاولة انقلابية مستقبلا حين أقنع مجلس الأمن القومي بتاريخ 27 أكتوبر/ تشرين الأول 2010 بإدخال تعديلات جديدة على الوثيقة السياسية للأمن القومي حيث تم تغيير عبارة [خطر الرجعية والجماعات الإسلامية] إلى عبارة [الأخطار المتوقعة من التنظيمات المتطرفة دينياً] كما تم إضافة عبارة [خطر الانقلابات والعصابات السرية] إلى قائمة التهديدات الداخلية لتركيا، وقد تحول الجيش من مؤسسة حاكمة تستولي على الحياة السياسية ومقاليد الحكم في البلاد بذريعة الدفاع عن المبادئ العلمانية للدولة التركية، إلى مؤسسة باتت تعتبر نفسها جزءًا لا يتجزأ من هيكليّة الدولة المنضوية تحت السلطة السياسية المدنية التي تمثل إرادة الشعب، حيث إن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة التي جرت بتاريخ 25 حزيران/ يونيو 2018 خير دليل على ذلك إذ لم يتدخل الجيش لا من قريب ولا من بعيد ولم يصدر عنه أي تصريح بخصوص الحياة السياسية العامة والعملية الانتخابية التي أدت لفوز حزب العدالة والتنمية والرئيس رجب طيب أردوغان لقيادة تركيا خلال السنوات الخمس القادمة.

وختاما يمكن القول إذا كان مصطفى كمال أتاتورك جعل من الجيش حاميًا للعلمانية ومبادئها، فإن رجب طيب أردوغان استطاع أن يجعل من هذا الجيش أميناً على الجمهورية ومدافعا عنها، كما أن زمن الانقلابات العسكرية ودول الجنرالات قد أفِلَ وأصبح من الماضي بعد أن أصبح الشعب التركي متمرِّساً وذا خبرة متجذِّرة بالعملية الديمقراطية وأدرك أن الفرق الكبير بين الدولة المدنية الديمقراطية وبين حكم العسكر.

عن الكاتب

محمد شيخ ابراهيم

كاتب في مجال البحث السياسي في منطقة الشرق الأوسط واوربا


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس