د. علي حسين باكير - القس الألكتروني

حذّر مسؤول في البيت الأبيض من إمكانية فرض مزيد من الضغوط الاقتصادية على تركيا اذا لم تقم بالإفراج عن القس الأميركي أندرو برونسون، في وقت رفضت فيه المحكمة التركيّة، أمس الأربعاء، طلب الاستئناف الذي تقدّم به محامي القس للإفراج عنه، وهو الأمر الذي يفاقم الازمة المحتدمة أخيراً بين عضوي حلف شمال الأطلسي الناتو.
ووفقاً للمسؤول الأميركي، فان إدارة الرئيس دونالد ترامب ستبقى حازمة للغاية في هذا الشأن، مشيراً الى أنّ «ترامب ملتزم بنسبة مئة في المئة باعادة القس برونسون إلى الوطن، وإذا لم نشهد أي تحرك خلال الأيام القليلة القادمة أو في غضون أسبوع، فمن الممكن حينها اتخاذ المزيد من الإجراءات على عقوبات اقتصادية»، مضيفاً: «سوف يستمر الضغط إذا لم نشهد نتائج».

من جهتها، أعلنت سارة ساندرز، الناطقة باسم البيت الأبيض، أن الرئيس الأميركي محبط كثيراً لعدم إفراج تركيا عن القس، قائلة: «الرئيس لديه قدر كبير من الإحباط نظراً لأن القس برانسون لم يُطلق، بالإضافة إلى عدم إطلاق مواطنين أميركيين آخرين وموظفين في منشآت دبلوماسية».

وفي محاولة لضبط السلوك الأميركي، تعتمد إدارة الرئيس رجب طيب أردوغان سياسة مزدوجة أحد أوجهها الرد على الإجراءات الأميركية العقابية بإجراءات مماثلة بنفس المستوى والمضمون. وتهدف هذه السياسة الى تقديم تركيا كطرف يدافع عن نفسه، ويسعى الى التعامل بندّية ومن نفس الموقع، فهي لم تبدأ المعركة ولا تريد حرباً اقتصادية مع الجانب الأميركي، ولكنّها ستكون مضطرّة للرد بالمثل اذا استمر الهجوم عليها.

ويأمل المسؤولون الأتراك في أن يؤدي ذلك الى منع الجانب الأميركي من التصعيد مجدداً، على اعتبار أنّ الضرر سيلحق بالطرفين إذا ما أصرّت الولايات المتّحدة على سياسة التهديد والعقوبات مع حليف لها في «الناتو».

أمّا الوجه الآخر لهذه السياسة، فهو محاولة الدفع سياسيا ودبلوماسيا باتجاه حل الازمة من خلال المفاوضات، ورسالة الجانب التركي في هذا المجال أنّه مستعد لنقاش الموضوع بشكل بنّاء حيث لا شروط ولا تهديدات.

إجراءات وخيارات

حتى الآن، فشل المساران في إيقاف التصعيد الأميركي. وبعد فرض عقوبات على مسؤولين أميركيين، اتخذت السلطات التركية قراراً يقضي بفرض رسوم جمركية على عدد من المنتجات الأميركية، من بينها على سبيل المثال لا الحصر التبغ المستورد من الولايات المتحدة بنسبة %60، والكحول بنسبة %140، والسيارات حتى %120 ومستحضرات التجميل إلى %60، والأرز بنسبة %50، والفواكه بنسبة %20. وتطرح الإجراءات والإجراءات المضادة علامات استفهام حول الخيارات التركية المتاحة في المرحلة المقبلة في حال استمرت واشنطن في التصعيد.

الانسحاب من «الناتو»

يرى عدد من المراقبين أنّ خيار انسحاب تركيا من حلف الناتو سيكون خاضعاً للنقاش في المرحلة المقبلة، لكن من وجهة نظر تركية، لا يبدو مثل هذا الخيار منطقياً، لا سيما أنّ الانسحاب من الحلف يخدم أجندة الصقور في الولايات المتّحدة، الذين لطالما طالبوا بطردها من «الناتو» بسبب النزعة المستقلة لسياساتها الخارجية.

سبب إضافي لا يرجّح أن تتّخذ أنقرة مثل هذا القرار أيضاً هو أنّ «الناتو» ليس منظمة أميركيّة حتى ترد أنقرة على واشنطن من خلال الانسحاب منها. صحيح أنّ الولايات المتحدة هي العضو الأقوى والأكبر في «الناتو»، لكن الحلف يضم 29 دولة مستقلة، وأي انسحاب محتمل لأنقرة منه سيلحق ضرراً فادحاً بالحلف، وقد يمتد ليطال العلاقة مع هذه الدول الأخرى على المستوى الأمني، وهو ما لا تريده أنقرة حالياً.

إغلاق قاعدة انجرليك

في المقابل، يبدو خيار التضييق على التواجد العسكري الأميركي في قاعدة انجرليك أكثر واقعية ممّا سبق. تستخدم الولايات المتّحدة هذه القاعدة منذ ما يزيد على قرن من الزمان، وهي تضم الآن مئات الجنود الأميركيين وعشرات المقاتلات، ويعتقد انّه قد تمّ تخزين حوالي 50 رأساً نووياً فيها منذ الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي. نظراً لأهميتها الجيوبوليتيكية ولكونها تقع في قلب مسرح العمليات العسكرية المتعددة التي تقودها الولايات المتّحدة في المنطقة، فانّ إغلاقها او حرمان الأميركيين من استخدامها سيتسبب في مشاكل حقيقيّة للجانب الأميركي، لا سيما على المديين القصير والمتوسط.

وعلى الرغم من أنّ هناك دعوات داخلية لإغلاقها، فإنّ النقاش الرسمي حول هذا الخيار غائب فعلياً. أحد أهم أسباب تجاهل السلطات التركية لمثل هذه المطالب الآن هو الرغبة في الإبقاء على خطوط التواصل العسكرية مفتوحة بين الجانبين، وتعزيزها بدلاً من عزلها. فالأزمة الحالية المتعلقة بالقس تحديداً يغلب عليها الطابع السياسي والاقتصادي، ولم تمتد بعد لتشمل الشق العسكري، على الرغم من محاولة الرئيس الأميركي الزج بهذا الجانب أيضاً من خلال التوقيع على مشروع القانون الذي يعلّق تسليم أنقرة مقاتلات (اف – 35) المتعددة المهام لمدة 90 يوماً.

شركاء جدد وأسواق جديدة

وفي مقابل هذه الخيارات، يركّز المسؤولون الاتراك، لا سيما رئيس الجمهورية اردوغان، على خيار البحث عن شركاء جدد وأسواق جديدة في مواجهة التصعيد الأميركي. يأتي ذلك في سياق التهديد بالتوجّه شرقا نحو روسيا والصين.

فالتوجه شرقاً يثير مخاوف أولئك الذين يخشون أن يخسر الغرب تركيا لمصلحة روسيا والصين مع ما قد يتركه ذلك من تداعيات جيوبوليتكية هائلة على المصالح الأميركية في المنطقة. والمؤيدون لهذا الخيار يرون أنّه الأقل تكلفة والأكثر فائدة بالنسبة الى أنقرة، فهو ان لم يردع واشنطن ويمنع التصعيد، فسيوفر على الأقل بديلاً يخفّف الاتراك به من الاضرار الواقعة عليهم، وقد يدفع الأوروبيون الى دعم انقرة أكثر في محاولة لإبقائها قريبة منهم أيضاً.

لكنّ آخرين يرون أنّ التوجه شرقا في هذه الظروف وهذا الوضع قد يجعل من تركيا رهينة لدى هذه الدول، ويرتب عليها تكاليف سياسيّة هائلة، وقد لا يُسمح لها بالبقاء في حلف الناتو في حال انجرافها بعيداً في تحالفات جديدة.

أيّاً يكن الامر، فإنّ التهدئة والتوصل الى حل عبر المفاوضات هما الهدف الحقيقي للمسؤولين الأتراك، لكنّ لغة التهديدات والعقوبات والتصعيد الأميركي تجعل من إمكانية تقديمهم تنازلات مجانّية لترامب أمراً غير ممكن من الناحية السياسية وغير مقبول أيضا على المستوى الشعبي.

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس