د. مصطفى الستيتي - خاص ترك برس

إنّ العلاقات التركية الأفريقية ضاربة في أعماق التّاريخ، وهي تمتد لنحو 500 عام على الأقلّ. فبعد سقوط الأندلس تمكّن العثمانيّون خلال القرن السّادس عشر من الحَيلولة دون تنصير مناطق واسعة في شمال أفريقيا ووسطها وشرقها، لكن المناطق الغربيّة والجنوبية من أفريقيا بقيت خارج التأثير العثماني. وترُوج اليوم أسئلةٌ كثيرة عن جدوى الوُجود العثماني في البلاد العربية والأفريقيّة، وهناك من يرى أنّه لا فضل لهم على الإطلاق على المناطق التي حكمُوها وأداروها، بل ربّما كان وُجودهم سببًا في تخلّف تلك المناطق.  وتسعى هذه المقالة إلى استجلاء بعض الحَقائق المتعلّقة بهذا الموضوع.

فخلال القرن السّادس عشر كانت الدّولة العثمانية مؤهّلة للعب دورٍ محوريّ وأساسيّ في السّياسة العالميّة، ومن هنا كان حضورها مؤثرًا في شمال أفريقيا وشرقها ووسطها. وعلى إثر سقوط آخر القلاع الإسلاميّة في الأندلس عام 1492م توجهت أنظار الأسبان والبرتغاليّين باتجاه شمال أفريقيا، وكان الهدف الموالي لهذه القوى الاستعمارية هو مُلاحقة الوُجود الإسلامي في المنطقة كلّها، بما في ذلك الجزائر وتونس والمغرب وطرابلس الغرب.  بيد أنّ خير الدّين بربروس، الملقب بأمير البحار كان له دور فعّال في منطقة البحر الأبيض المتوسّط، إذ دخل في صراعٍ شرسٍ وطويل مع الأوروبيين في شمال أفريقيا بهدف صدّ هذه الهجمات الصليبيّة.

ففي عام 1516 تمكّن خير الدّين بربروس من السّيطرة على الجزائر، لكنّه كان يُدرك أنّه من الصّعب المحافظة عليها في مواجهة أطماع الأسبان.  ومن هنا اعترف بالحُكم العثماني في الجزائر ورسّخ أقدامه في المنطقة. وفي عام 1551م تمكن طورغُوطْ رئيس من ضمّ طرابلس الغرب أي ليبيا اليوم، إلى دائرة الحُكم العثماني.  أمّا تُونس فدخلت تحت النفوذ العثماني بشكلٍ نهائيّ منذ عام 1574م، بعد أن قاوم العثمانيّون المطامع الإسبانيّة فيها على مدى أربعين عامًا متتالية، بل لقد امتدّ النّفوذ العثماني حتّى المغرب الأقصى، فعندما اشتدّ النّزاع على العرش في المغرب تدخل العُثمانيون لمنع الأطماع البرتغاليّة والحيلولة دون الاستيلاء عليها.     

لقد تمكّن العثمانيّون كذلك من حماية السّلطنات الإسلامية في داخل أفريقيا في كلّ من بُورْنو وسُونغَاي وتمبكتُو، وهذه السّلطنات اِعترفت بالسّلطان العثماني خليفةً للمسلمين وأصبحت تابعةً له.  وهكذا وبعد أن تمكّن العثمانيّون من إزاحة النّفوذ الأسباني من شمال أفريقيا حالُوا دونهم ودون تمصير هذه المناطق واحتلالها.

وبعد فشل محاولات السّيطرة على هذه المناطق الإسلاميّة، ويئس الأسبان والبرتغاليّون من تركيز نفوذهم في حوض البَحر الأحمر وشمال أفريقيَا حوّلوا قواتهم الاستعماريّة إلى ما وراء المحيط الأطلنطي، وهذا ما سرّع من احتلالهم للقارّة الأمريكية.  

منذ نهاية القرن الخامس عشر  حاز البرتغاليّون على نفوذٍ كبير في البحار، وهاجمُوا السّلطنات المسلمة في شرق أفريقا وغربها، وأحدثوا فيها خرابًا كبيرًا، وركّزوا نفوذهُم في بعض أجزائها.  وبعد أن سيطرت الدّولة العثمانيّة على البحر الأحمر، منعت القوات البُرتغاليّة من احتلال شرق أفريقيا إلى حدود الموزمبيق. كما أنّ النّفوذ العثمانيّ المتركز في بلاد الحَبشة امتدّ ليصل إلى مُومْباسَا في كينيا.    وعلى هذا النّحو حال العثمانيّون، لوقتٍ طويل دون تمكُّن الأوروبّيين من احتلال هذه المناطق وتحويل شُعوبها إلى المسيحيّة.

ويقول المؤرّخون إنّه لو لا تدخّل العثمانيّين، وقطع الطريق أمام النّفوذ الإسباني والبرتغالي في تلك المناطق لكان الوضع مختلفًا تمامًا عمّا هو عليه اليوم. وليس مستبعدًا أن تكون شُعوب هذه المنَاطق قد تحوّلت بالكامل إلى النّصرانيّة بقوّة الحديد والنّار، وتمّ إجبارها على ترك دينها وهويّتها ولغتها تمامًا مثلما حصل للمُسلمين في أسبانيا بعد سقوط الأندلس. ومن هنا يُمكن طرح سُؤال مهمّ في علاقة بهذا الموضوع وهو هل كان الوجود العثمانيّ في هذه المناطق بأفريقيا احتلالاً، كما يقول بعض المؤرّخين والمثقّفين، أم كان مثّل سدًّا منيعًا في وجه القوى الاستعماريّة التي كانت تتربّص بالمنطقة الدّوائر؟

عن الكاتب

د. مصطفى الستيتي

باحث متخصص في التاريخ العثماني.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس