د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا

كانت واشنطن تظن أنها نوبة غضب تركي ستتبدد سريعا، لكن الكرملين أمسك باليد التركية الممدوة مستغلا الظروف الصعبة التي تمر بها أنقرة ولم يتركها حتى اللحظة.

التوتر التركي – الأميركي سببه هذه المرة إعلان أنقرة عن تمسكها بمواصلة سياسة الانفتاح والتقارب على روسيا والاستعداد للدخول في تفاهمات استراتيجية أكثر عمقا بينها السعي للحصول على منظومة صواريخ إس – 500 بعد تمسكها بصفقة إس – 400.

تقول واشنطن إنها لن تسمح لتركيا أن تحاول الاحتفاظ بقدمها في بروكسل حيث مقر حلف شمال الأطلسي بينما هي تحاول وضع القدم الأخرى في موسكو رأس حربة المواجهة مع الغرب في هذه الحرب المفتوحة. إدارة ترامب ترفض حصول تركيا على الصواريخ الروسية والسعي لشراء الباتريوت الأميركية في الوقت نفسه. لكن البنتاغون والكونغرس يقولان إن المواجهة ستكون أكبر من ذلك وستصل إلى محاولة إخراج تركيا من تكتل تصنيع مقاتلات إف – 35 الحديثة وقطع الطريق على وجود الضباط والخبراء الأمنيين الأتراك في غرف التخطيط الاستراتيجي للأطلسي تجنبا لوقوع عملية تسرب للمعلومات والخطط الحربية والاستخباراتية.

لم تعد واشنطن تكتفي باتهام أنقرة بمساعدة إيران في تفادي العقوبات الأميركية بسبب برامجها النووية. وأنقرة ذهبت في اتهاماتها للإدارة الأميركية بأبعد من تسليح وتدريب المجموعات الكردية في "قسد" المرتبطة بتنظيم "حزب العمال الكردستاني" المصنف إرهابيا من قبل أميركا نفسها.

تلتقي المؤشرات كلها عند حقيقة أن الإدارة الأميركية لن تكتفي بمواصلة سياسة فرض العقوبات أو التلويح بها ضد تركيا. وأن أنقرة لن تتراجع عن اتهام واشنطن بمحاولة استهداف اقتصادها وخططها الإنمائية ومحاولة تدميرها كما حدث قبل أشهر عندما حمل الأتراك الجانب الأميركي المسؤولية المباشرة عن فقدان عملتهم الوطنية لربع قيمتها أمام الدولار  بعد تغريدة استهداف استفزازية للرئيس الأميركي.

تحاول تركيا تبرير الصفقة "الصاروخية " مع موسكو بالتذكير أن لا مانع قانوني يحول دون حصولها على أسلحة من خارج الأطلسي مشيرة إلى امتلاك اليونان وبلغاريا ودول أوروبية شرقية عديدة لهذا النوع من السلاح، وإلى تصريح الأمين العام للناتو أن دول الحلف مستقلة في اتخاذ قرارات شراء وبيع السلاح بما يتلاءم مع سياساتها التسلحية. وخلوصي أكار وزير الدفاع التركي يردد "إن احجام الحلفاء عن تزويد تركيا بالمنظومات الجوية لحماية نفسها من التهديدات، اضطرها لشراء منظومة إس 400 الروسية، التي سيتم نصبها في شهر تشرين الاول المقبل فوق الأراضي التركية ".

لكن المسألة لن تتوقف حتما عند ما يقوله روبرت بلادينو، نائب متحدث وزارة الخارجية الأمريكية " لقد حذرنا بوضوح من أنه في حال شراء تركيا لمنظومة إس-400 فإن هذا سيكون سببًا في إعادة تقييم مشاركتها في برنامج إنتاج مقاتلات إف-35، ويهدد احتمال تسليم أسلحة أخرى في المستقبل لتركيا". ولن تنتهي مع ما طالب به رئيس القيادة الأوروبية للجيش الأميركي، القائد الأعلى لقوات حلف شمال الأطلسي، الجنرال كورتيس سكاباروتي، بضرورة عدم إعطاء تركيا طائرات إف-35 حال مضيها قدمًا في شراء المنظومة الروسية . التحدي التركي الأميركي في ذروته اليوم . أنقرة تقول إنها جاهزة لبحث شراء مقاتلة الجيل الخامس الروسية " سوخوي – 57 " إذا ما حاولت واشنطن إبعادها عن شراكة تصنيع وتسويق المقاتلة إف – 35 . ودولت بهتشلي زعيم حزب الحركة القومية اليميني المساند للحزب الحاكم يقول معلقًا على موقف واشنطن من شراء تركيا للصواريخ الدفاعية الروسية، "لسنا دولة خاضعة للاستعمار، ولا ندور في الفلك الأمريكي ".

كيف وصلت الأمور إلى هذه النقطة من التصعيد والتوتر والتحدي؟

أصل الحكاية كما تقول أنقرة هو أنّ القوات المسلحة التركية تعاني من نقص في مجال دفاعاتها الجوية خصوصا في عدم امتلاكها لمنظومة صواريخ دفاعية متطورة وإن شركاء أنقرة في الأطلسي هم الذين تعهدوا لسنوات بسد هذا النقص لكن تركيا لم تعد تريد أن تكون تحت رحمة المظلات الصاروخية الغربية التي خذلتها أكثر من مرة ، في عام 1991 أمام تهديدات صدام حسين بقصف أنقرة وإسطنبول ، وفي عام 2011 مع تفاقم الأزمة السورية لتكرر ذلك عام 2015 إبان التوتر الحدودي التركي الإيراني مع قرار سحب صواريخ الباتريوت الألمانية والهولندية المنتشرة على حدودها الشرقية وهي في أمس الحاجة إليها . وهكذا تحركت أنقرة للبحث عن صفقة تسد هذا العجز الأمني والاستراتيجي الخطير . العواصم الغربية لم تقدم العروض المادية المقنعة لأنقرة فقرعت باب موسكو التي فتحته على وسعه أمام الأتراك . واشنطن وحلفاؤها يرصدون عن قرب هذا التقارب التركي الروسي المتزايد والذي انتقل إلى ملفات الطاقة والتسليح والتكنولوجيا المتطورة والرهان على إيصال حجم التبادل التجاري السنوي إلى  100 مليار دولار.

لا تعاني العلاقات التركية الأميركية اليوم من إخفاق تام في إزالة أسباب التوتر الكثيرة بين البلدين بسبب تباعد الرؤى وتضارب المصالح، بل من احتمال اتساع الشرخ وتحوله إلى خصومة وعداء سياسي وايديولوجي ثابت لا يختلف عن الحالة الأميركية الروسية أو الأميركية الإيرانية. كل طرف يتطلع إلى تعزيز نفوذه  وبناء منظومة علاقات إقليمية جديدة على حساب الطرف الآخر وبعكس ما يقوله ويريده. المشكلة الأكبر ستكون عندما يطالب البلدان حلفاءهما الآخرين بتحديد خياراتهما والالتحاق بعملية الاصطفاف الجديدة هذه. أول من سيطالب بدفع الثمن وتحمل المسؤوليات سيكون حلف شمال الأطلسي الذي يجمعهما منذ أكثر من 6 عقود تحت سقف واحد. ثم هناك المجموعة الأوروبية التي ستطالبها واشنطن بإعلان موقفها النهائي عندما تواصل أنقرة الانفتاح على روسيا    أكثر فأكثر وتتمسك بسياسة البحث عن حلفاء وشركاء جدد يضعهم الغرب داخل دائرة الخطر والمواجهة مثل إيران وفنزويلا . الكارثة الحقيقية ستكون عندما تذكر إسرائيل بموقعها ودورها وحصتها الإقليمية وتصب الزيت فوق النار لتأجيج التصعيد أكثر فأكثر ضد تركيا شريك الأمس وعدو اليوم في المنطقة.

قبل عامين كان خبراء الأطلسي يصفون التقارب التركي الروسي بالخيالي والمستحيل حصوله بين جارين في حالة عداء دائم وترّقب حذر، تركيا لن تصمد أمام الضغوطات الغربية، وأبعد ما يمكنها أن تقوم به هو لعب ورقة الصفقة من أجل الحصول على السعر الأفضل. تركيا وقعت الصفقة التجارية مع روسيا بعرض مغر، ورئيس قسم المعلومات في أسطول البحر الأسود الروسي "ألكسي روليوف"، يشيد بالمناورات البحرية المشتركة مع تركيا، في البحر الأسود مركز النزاع التاريخي بين أنقرة وموسكو. لكن الأهم هو اليوم أن الأحجار تتحرك مجددا على رقعة الشطرنج الإقليمية وتكاد المعادلات والتوازنات الكلاسيكية المعروفة تتحول إلى سراب يتبدد في العامين المقبلين.

هناك من يرى أن المنطق وضبط الإيقاع في العلاقات التركية الأميركية هو الذي سيعود ويتقدم ويمسك مجددا بدفة القيادة، خاصة وأن أنقرة بموقعها الجيوسياسي تظل تحظى بأهمية العواصم الغربية مهما "تمردت"؛ فغير ذلك يعني في أبسط تقدير إطلاق العنان للتحالف الرباعي الروسي الصيني التركي الإيراني وهو ما لن يكون سهلا على واشنطن وحلفائها الغربيين تحمله في هذه المرحلة.

كان وزير الدفاع الأميركي، جيمس ماتيس، يردد قبل عام ونصف أن واشنطن لن تعرقل خطوة تركية من هذا النوع، فهذا قرار سيادي ينبغي احترامه. لكنه لم يتردد في تذكير الأتراك أن عمل منظومات "إس - 400" لا يتطابق عملانياً مع المعدّات العسكرية للأطلسي الذي تعدُّ تركيا أحد أعضائه. هناك من يقول إن أميركا ستتخذ المزيد من تدابير منع تحول هذا التقارب الروسي التركي إلى أدوات ضغط إقليمي على مصالحها ونفوذها ، لكن هناك من يقول أيضا إن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب تواصل عملية دفع تركيا نحو روسيا أكثر فأكثر . ربما هو فخ أميركي نصب لأنقرة لدفعها نحو مغادرة الحلف إما بارادتها أو بقرار الدول الاعضاء لأنها تمردت على روح الاتفاقيات ومضمونها؟

رسائل الغزل الأميركي الأخيرة حيال روسيا من أجل ماذا ؟ هل قررت واشنطن قطع الطريق على كل هذا التقارب التركي الروسي عبر التواصل مع موسكو مباشرة بعدما وصلت ضغوطاتها على أنقرة إلى طريق مسدود؟

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس