علي خيري - خاص ترك برس

في أثناء بحثي عن مسلسل لأشاهده في الأجازة، أوصاني أحد الأصدقاء  بمسلسل تشرنوبيل، وهو مسلسل قصير من خمس حلقات قد لا تستطيع مفارقة مكانك إلا بعد أن تشاهد جميع حلقاته مثلما فعل كاتب هذه السطور.

يحكي مسلسل تشيرنوبيل بالتفصيل قصة مأساة انفجار المفاعل النووي الذي يحمل نفس الأسم داخل الاتحاد السوفيتي في العام 1986، والمسلسل رائع جدا على كافة الأصعدة الفنية، وقد جعلني أعيش داخل الأحداث حتى أنني كنت أحبس أنفاسي بصورة لا إرادية حتى لا أتأثر بالأبخرة المتصاعدة من المفاعل، وأنا هنا لن أتناول المسلسل من الناحية الفنية، بل سأتحدث عن الخواطر التي اعتملت في نفسي أثناء وبعد مشاهدة المسلسل.

الخاطر الأساسي والذي تفرعت منه كل أفكاري أثناء مشاهدة المسلسل هو أننا نعيش في نسخ متكررة من مدينة تشيرنوبيل، فأنا أكاد أجزم أن كل مواطن عربي شاهد هذا المسلسل لم يشعر بالغربة أثناء متابعه للمسلسل، ولم يستغرب التصرفات التي فاقمت الكارثة وأدت إلى مقتل كل هؤلاء الأبرياء، ودعوني أحدد أهم النقاط التي شعرت معها أنني في وطني:

سيادة الخوف:

الخوف كان يخنق جو شعوب الاتحاد السوفيتي قبل أن تخنقهم الأبخرة الصادرة عن مفاعل تشيرنوبيل المنفجر، فالخوف كان يمنع الكل من قول الحقيقة، الخوف كان يمنع الجميع من الإبداع، التهديد هو الأداة الأساسية في أيدي المدراء والمسؤولين، ومن تحت الاستبداد والشمولية التي كان يحكم بها الاتحاد السوفيتي نتجت كل المصائب والبلاوي التي أودت به في نهاية المطاف.

الخوف كان هو الشعور الأساسي الذي تدور حوله كل الأحداث داخل الاتحاد السوفيتي فالرئيس يخاف من ثورة الشعب الذي جاء رغما عن إرادته، ويخاف من خيانة مساعديه الذين قد يخلوا بينه وبين الشعب في أي وقت، فيلجأ إلى إرهابهم على طول الخط، ويقتل أي شخص فيهم على الشبهة، الأمر الذي يجعل هؤلاء المسئولين في حالة مستمرة من الخوف، خوف من الخطأ الذي قد يفسر على أنه محاولة لإفشال الحاكم أو إظهاره ضعيفا غير مسيطرا على الأمور، مما يجعلهم يحاولون هم أيضا إخافة وإرهاب مرؤسيهم، إلى أن تصل إلى أدنى درجات السلم الوظيفي.

وفي مثل هذه الأجواء الملوثة بالخوف من الممكن جدا أن تحور شكواك من عيب صناعي في أي منشأة إلى ذم وتشكيك في الصناعة الوطنية، وسير عكس اتجاه الزعيم المشجع للصناعة الوطنية، -والذي يزعم أن بلاده وصلت تحت زعامته إلى الريادة والتفوق في كل مجالات الحياة- مما يدل على انعدام وطنيتك، وقد يمتد الموضوع لاتهامك بالعمالة الأمر الذي قد تفقد مع عائلتك ووظيفتك وحياتك، وهو عين ما حدث في الاتحاد السوفيتي عندما اتهموا العالم الذي حذر من وجود عيب في بنية المفاعلات النووية السوفيتية قبل وقوع انفجار تشيرنوبيل بسنوات، حيث تم اتهامه بكل التهم المعلبة التي نسمعها كثيرا في أوطاننا الخائفة.

سيادة التطبيل والنفاق:

من أبدع مشاهد المسلسل وأكثرها تجسيدا لواقعنا العربي، ذلك المشهد الذي جسد اجتماع المجلس المحلي للمدينة بعد نشوب الحريق وقبل الاعتراف الرسمي بحجم الكارثة، عندما تكلم أحد الأعضاء عن ضرورة تهجير السكان من محيط المفاعل ضمانا لسلامتهم، عندها أشار أكبر الحاضرين سنا إلى صورة لينين قائلا إننا نسير على خطى هذا الرجل العظيم، وأخذ في مدح بطولة الشعب وتضحيته، وكيف أن التاريخ لن ينسى بطولة الشعب السوفيتي في خطبة حماسية لا علاقة لها بجوهر التهديدات الحقيقية التي تحيط بالسكان، والغريب أن الحضور صفقوا بحماس للكلام الفارغ الذي خرف به هذا العجوز، وأنهوا الاجتماع بدون أي فائدة.

هذا المشهد بالذات غني بالكثير من المصطلحات التي يستخدمها المنافقون والمطبلون كغطاء على فشل أسيادهم، وإسكاتا لم يجرؤ على اقتراح حلولا عملية للخروج من الأزمات التيوقعت بسبب غباء الزعيم المفدي.

الاستهانة بأرواح الناس:

طالما أن الكاميرات لا تصور ولا يوجد من يحصي عدد الضحايا فالرقم غير مهم بالمرة، فالناس عند حكام تشيرنوبيل ومن على شاكلتهم من حكام نسخ تشيرنوبيل، لا تعنى إلا أرقاما صماء لا تحس ولا تشعر، الكل تراخى عن اتخاذ الإجراءات العاجلة للإجلاء، لمجرد أنها ستعني اعترافا ضمنيا بوجود كارثة، والجميع يحاول التهرب من الاعتراف بوجود الكارثة هربا من المسئولية، وكأن الشعار فليمت من يمت المهم أن أهرب من الحساب.

أوجه التشابة بيننا وبين تشيرنوبيل يضيق المقام عن ذكرها، ويكفيك أن تشاهد المسلسل أو تقرأ عما حدث في المفاعل حتى تستخرجها من النظرة الأولى، أسأل الله أن يوفقنا إلى الخروج من هذا التشابه مع المدينة المنكوبة حتى لا نصل إلى نفس المصير.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس