ياسر عبد العزيز - خاص ترك برس

يعد الاتفاق المبدئي الذي عقدته أطراف مباحثات أستانا انتصارا على كل المستويات للدبلوماسية التركية، والذي يصب في مصلحة الثورة السورية والمدنيين المؤمنين بها، ويرجع هذا الانتصار لعمل الخارجية التركية على عدة محاور أممية وأوروبية وروسية مع ممارسة ضغوط على الجانب الأمريكي الذي ينتظر أن يصل وفد من إدارته العسكرية لأنقرة خلال أيام لوضع اللمسات الأخيرة للمنطقة الآمنة على الحدود التركية السورية، تلك المنطقة التي ستحل مشكلات كثيرة منها الداخلية ومنها الخارجية لتركيا، لكن في المقابل لا تزال الضغوط الأوربية الأمريكية على تركيا مستمرة، بعد صفقة منظومة الدفاع الروسي المتقدمة أس 400 والتي تمثل للأوربيين رعبا من تنامي قوة تركيا العسكرية وترسيخ قوتها في المنطقة.

تلك القوة التي بدت ظاهرة لانتزاع تركيا ما تراه حقا ويراه الأوربيون اغتصابا، وتحديدا أعني غاز شرق المتوسط، فبدء تركيا في التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط بسفينة التنقيب فاتح والذي أتبعه إرسال سفينة التنقيب ياغوس واللتان يصاحبهما قطع بحرية لحمايتهما أثناء أداء عملهما، يشكل هاجسا لدى أوروبا المحمومة بوجود تركيا عضوا في حلف ناتو، فمن ناحية ترى أوروبا أن تركيا تمارس (بلطجة عسكرية) ومن ناحية لا تستطيع محاسبتها لأنها عضو في الحلف وهناك آليات خاصة لا يمكن تجاوزها لمحاسبتها، لكن فوق الآليات واللوائح، تقف المصلحة وضرورات التعاون المبني على قواعد الأمن الإقليمي.

من ثم فإن الدور السياسي والدبلوماسي الذي تلعبه أوروبا من وراء الستار بتحريك كل من قبرص واليونان لا يخفى على الإدارة التركية، فقبرص التي لا تملك قوة بحرية تكافئ ولا حتى تنافح قوة تركيا البحرية لا تستطيع أن تدفع سفن التنقيب التركية المحمية بقطع حربية، وكذلك الحال بالنسبة لليونان، لذا فإن التحرك الدبلوماسي والسياسي المستمر للبلدين في هذا الشأن يدفع باتجاه الذهاب لميدان الدبلوماسية لحسم الصراع الدائر على غاز شرق المتوسط.

تقوم قبرص ومعها اليونان بتطوير علاقاتها مع القوى المحلية المعنية بالمسألة، فمنذ عام 2010 عقدت اليونان وقبرص والكيان الصهيوني ستة مؤتمرات ثلاثية. كان آخرها في مارس من العام الجاري، والذي شهد توقيع الدول الثلاث إعلاناً تعهدوا فيه بزيادة التعاون بينهم، ودعم استقلال الطاقة وأمنها، والدفاع عن مصادرها، والعمل ضد زعزعة استقرارها، وهو ما يعني بالنتيجة تركيا.

لم تتم دعوة تركيا للانضمام إلى منتدى شرق البحر المتوسط ​​للغاز، والذي يضم كل من مصر وقبرص واليونان والكيان الصهيوني وإيطاليا والأراضي الفلسطينية والأردن، وهو منتدى يهدف إلى تنسيق الجهود لتطوير موارد وآليات الغاز للتصدير إلى الأسواق الدولية، ولا يخفى من تشكيلة المنتدى أنه معني بغاز شرق المتوسط، ولا يخفى كذلك أنه كحلف بغداد الذي أنشأ لغرض، لكن الفرق هذه المرة، أن الغرض من الحلف هو تركيا لا الشيوعية، وإن تشابهت الأطراف.
لا يمكن الجزم بأن أوروبا تقف وراء هذا المنتدى، لكن الشواهد تدفع لتصديق هذه الفرضية، فأوروبا غير المطلة على البحر المتوسط بالأساس كألمانيا أعربت عن انزعاجها ودفعت الاتحاد الأوروبي لنفس الموقف، ما لشيء إلا لوقف الصعود المتنامي للجمهورية التركية، عسكريا واقتصاديا، فمن المعلوم بالضرورة هذه النقلة التي سيحدها استخراج غاز المتوسط لتركيا التي تنفق 45 مليار دولار سنويا من الناتج القومي على النفط.

الدبلوماسية التركية تسعى لاستقطاب أعضاء من منتدى شرق البحر المتوسط ​​للغاز، فالتحركات التي بدأت بالفعل لتعاون أكبر مع الأردن والمساعدات اللا محدودة لفلسطين، وتدوير زوايا الخلاف مع اليونان، لاسيما وأن مساحات جديدة يمكن أن تفتح بعد انتخاب كرياكوس ميتسوتاكيس الذي يرغب في الالتفات للداخل وتصفير المشاكل في المحيط، وهو ما يعني أن تفاهمات ما يمكن أن تحيده، مع ذلك تبقى المعركة قائمة لظفر تركيا بقفزة اقتصادية جديدة، لكن هذا الهدف يحتاج إرادة سياسية قوية من جهة إدارة ودبلوماسية مرنة تستطيع أن تستفيد من الأوراق المتاحة وتستغل عامل الوقت.

عن الكاتب

ياسر عبد العزيز

كاتب وباحث سياسي ومدير مركز دعم اتخاذ القرار في حزب الوسط المصري سابقا.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس