د. علي حسين باكير - العرب القطرية

لا شيء جديد على رقعة الشطرنج السورية، الأحجار تتحرك لكن السياق العام الذي يحدد العلاقة بين مختلف اللاعبين على هذه الطاولة لا يزال يدور في السياق نفسه كما هو منذ بضع سنوات، التفاهمات التكتيكية بين أميركا وتركيا من جهة، وبين روسيا وتركيا من جهة أخرى، تهدف إلى جسر الهوّة بين الأهداف المتناقضة لهذه الأطراف، وليس إلى إيجاد حل قاطع، ولذلك نرى تنافساً متزايداً بين الفينة والأخرى بين هؤلاء اللاعبين، في الطريق إلى تحقيق كل منهم أهدافه وأولوياته المتناقضة مع الطرف الآخر.

التطورات الأخيرة التي حصلت في ريف حماة وإدلب وتقدم النظام السوري وإعادة احتلاله بعض المناطق والمدن ضمن منطقة خفض التصعيد، يجب أن يُفهم في سياق معطيين، الأول يتعلق بهدف روسيا النهائي في سوريا، وهو تمكين نظام الأسد من استعادة السيطرة على كامل الأراضي السورية، وهو معطى ثابت ويستند من الناحية العملية على سياسة القضم والهضم البطيئة لكن الفعّالة، أمّا الثاني، فهو يتعلق بالتفاهم التركي - الأميركي حول المنطقة الآمنة في شمال شرق سوريا، وهو التفاهم الذي أزعج موسكو على ما يبدو، ويتعارض مع أهدافها وأولوياتها من ناحية تمكين نظام الأسد من السيطرة على كامل الأراضي وخروج القوات الأجنبية من البلاد.

في هذا السياق، يُطرح السؤال التقليدي عن الأوراق التي تمتلكها تركيا في هذه اللعبة، وهل ستستطيع تحقيق أهدافها في ظل الخروقات المستمرة من قبل روسيا ونظام الأسد للتفاهمات التي يتم التوصل إليها؟ عندما نأخذ بعين الاعتبار موازين القوى في الساحة السورية، سنلاحظ أن تركيا ليست في موقع أفضلية في وجه الولايات المتحدة المتحالفة مع الميليشيات الكردية، أو في وجه روسيا المتحالفة مع نظام الأسد وإيران، انطلاقاً من هذه المعطيات، تحاول أنقرة قدر المستطاع تأمين أهدافها وأولوياتها من خلال لعبة مزدوجة دون الاضطرار إلى الاصطدام المباشر مع أي من اللاعبين الكبار من جهة، ودون أن تحرق جسورها أيضاً مع أي منهما، لتبقى قادرة على الاستفادة من لعبة التوازنات المضادة.

استمرار مثل هذه اللعبة التركية المزدوجة يعتمد بشكل أساسي على مدى حاجة موسكو وواشنطن إلى أنقرة في سوريا، لكن اقتراب تركيا إلى أي من المعسكرين سيحفّز المعسكر الآخر للضغط على أنقرة، وهذا ما يحصل الآن بالفعل، الاتفاق الأميركي - التركي المبدئي حول المنطقة الآمنة في شمال شرق سوريا حفّز روسيا على خرق اتفاق الهدنة الذي تمّ التوصل إليه في اجتماع أستانة الأخير، وأعطت موسكو تعليماتها لنظام الأسد باستكمال العمليات العسكرية، وهذا بحدّ ذاته رسالة إلى الجانب التركي أيضاً.

ما سيحصل الآن هو أن الدبلوماسية التركية ستعمل على مستوى رئيس الجمهورية لإقناع الرئيس الروسي بوتين، بأن العمليات العسكرية للنظام ستؤدي إلى انهيار الحل السياسي وخلق أزمة لاجئين تهدد الأمن القومي التركي، وأن هذه الانعكاسات ليست في صالح روسيا، في نهاية الأمر قد تتمكن أنقرة من إقناع موسكو بذلك ضمن سياسة تسجيل النقاط المتبادلة، وقد تتباطأ عمليات النظام العسكرية نتيجة لذلك، لكنها لن تتوقف بشكل كامل على المدى المتوسط والبعيد، فسياسة القضم والهضم ستبقى قائمة، وكذلك سياسة التفاهم والتنافس بين تركيا وروسيا ستبقى قائمة ضمن التجاذب الأوسع بين الطرفين، وكذلك اللعبة التركية المزدوجة للموازنة بين أميركا وروسيا في السباق القائم لتحقيق كل طرف من هذه الأطراف أولوياته وأهدافه في سوريا.

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس