فراس السقال - خاص ترك برس

لا شكّ أنّ التخطيط المسبق بِداية غالب الأعمال، ولابدّ لأيّ تخطيط أن ينبثق عن الإرادة، التي هي نتيجة ثورة فكرة جالتْ في الخيال، وهذه الفكرة وليدة فكرٍ مُعيّن ننتهجه ونُؤمن به، فالفكر هو الحلقة الأولى والمادّة الأساسيّة لأيّ عمل نُنجزه.

نحن نعيش في عالم كبير ومُتنوّع، زاخر بالمتغيرات، يَعجّ بالأفكار المتوافقة أو المتناقضة، فلكلّ أمّة مُعتقدها وثقافتها وقواعدها وأفكارها الخاصّة بها، فبعضها تتوافق مع غيرها أو تحايده، وأخرى تتنافر من البعض دون عداء، وثالثة تتناقض أفكارها كُلّيًا مع باقي الأمم، ممّا يُؤدّي إلى نُشوب الخصومة والعداء بينها، لعدم النزول على أفكارها. وهنا تظهر التحدّيات، فكلّ طرف يريد سحب المقابل إلى صفّه، والمشكلة تكمن في العداء والهيمنة والأسلوب، إضافة إلى الفكر الذي صدرتْ عنه تلك النزعة العدوانية، وهذا هو الاستعمار الفكري.

يحاول الاستعمار الفكري العالمي الهيمنة على الفكر الإسلامي المعتدل، المتمثّل في فكر أهلّ السنّة والجماعة، فنرى كثيرًا من المشاريع المعادية لمبادئ الفكر الإسلامي تحتشد للنَيل من هذا الفكر  وشيطنته. ومن صور الاستعمار الفكري للفكر الإسلامي:

الاستعمار الفكري الأوروبي: الذي يدعو إلى غربلة فكرنا ودراسته دراسة جديدة، بأدواته وأساليبه وأفكاره، عبر التحكّم بمبادئنا وأُصولنا، كالإلغاء أو الزيادة أو التهجين أو التعديل في نُصوصنا على النحو الذي يرتضيه، كرغبته في إجراء التعديلات على القرآن الكريم وحذف آيات منه، وكذا تضعيف بعض الأحاديث الصحيحة التي لا تناسب منهجه.

الاستعمار الفكري الصهيوني: القائم في الهيمنة على حُكّام الشعوب العربية والمسلمة، بغسلِ أدمغتهم وتدجينها (ترويضها) بالفكر الذي يريده، أو تأهيل شخصيات يراها مناسبة لفكره الماسوني، والدفع بها لاعتلاء عروش السيادة في بلاد المسلمين والعرب، وانتاج طغاة جبارين لا يرون الأعداء والخصوم إلا في شعوبهم، ولا يتقنون الشدّة إلا في أبناء أوطانهم وأهلهم.

الاستعمار الفكري الشيوعي: الذي يفرض أفكاره الاشتراكيّة الإلحاديّة على البلاد التي يَعتبرها تابعة أو حليفة لدولته الاستعماريّة، كالذي تفعله روسيا اليوم في سورية بقوتها العسكريّة، وفرضها فكرها وثقافتها على الشعب السوري المحتل، وكذلك احتلال الصين لتركستان الشرقيّة وفرض الفكر الشيوعي عنوة، ومحاربتها الفكر الإسلامي هناك بشتى وسائل القمع والاضطهاد.

الاستعمار الفكري التبشيري: يعمل على وضع المسلمين الفقراء في البلاد النامية والمتخلفة أمام خيارين إمّا التنصر والإعالة والحماية، أو منع المساعدة إن بقوا على الإسلام أو القتل، وهذا ما تنهجه فرنسا في البلاد الإفريقية. وقد رأينا بعض مظاهر التبشير في مخيم "الزعتري" للسوريين في الأردن.

الاستعمار الفكري الهندوسي: وهو مشروع دموي حاقد في الهند وكشمير وبورما، يقوم على قتل المسلمين والمسلمات واضطهادهم، بشتّى أنواع التعذيب والعنف، فلم ينج من هَمجيّتهم شيخ أو امرأة أو طفل، وما يزيد شراسته تغافل المجتمع الدولي عن تلك الجرائم، ولعل سبب هذا التغاضي كون تلك الوحشيّة مُوجّهة ضدّ المسلمين المعتدلين بشكل خاص.

الاستعمار الفكري الصَفوي الفارسي: والتي تتولى كبره إيران، فهي اليوم تُسيطر فِعليًا على أربع عَواصم مُسلمة عربيّة ظاهرة، عدا التي تخطط وتكيد للإيقاع بها. ويقوم فِكرها على سياستين: الأولى محاربة أهلّ السنّة والجماعة بقتلهم وتصفيتهم في تلك الحروب الثائرة في سورية والعراق واليمن، والثانية قتل الفكر الإسلامي عبر نشر التشيّع في البلاد التي يسيطر عليها، والتي يُخطط التوسع فيها. وهذا المشروع الحاقد مُتَابَع من المشاريع الاستعمارية السابقة، حسب ما نراه من صَمْت العالم على جرائم هذا الاستعمار، ومن إعطاء التسهيلات لتوسعه في بلادنا العربية، فكل البلاد المستعمِرة تتوافق مع بعضها البعض طالما الأهداف واحدة والمصالح مشتركة.

الاستعمار الفكري الُمتطرّف (الذي يرفع راية الإسلام وهو منه براء): وهو ما تدّعيه بعض التنظيمات المتشددة كتنظيم الدولة "داعش" وغيره، التي استطاعتْ تشويه الفكر الإسلامي المعتدل، بإلصاق الإرهاب والعنف به، وما حقيقة تلك التنظيمات إلا صنيعة شبكة من الاستخبارات العالميّة المعاديّة للإسلام، التي تعمل على تشويه ديننا بهذه الأدوات المتنكرة والمنكَرة.

الاستعمار الفكري التقسيمي: وهو مشروع يقوم على زرع الفتن بين المسلمين، والعمل على زيادة المسمّيات والتصنيفات لجماعة المسلمين وللفكر الإسلامي وتفتيتهم، ولا يفوت المشاريع الاستعمارية السابقة دعم هذا الاستعمار الفكري بشكل كبير، فهذا المشروع يُعَدّ بِداية الاستعمار الحقيقي، ودوره قائم على إضعاف الجسم المسلم عبر بثّ الخلل بينهم، وتوسيع تلك الفجوات بالمكائد، ثمّ تنتهي مهمته بالتقسيم، وبعد ذلك يلحقه الاستعمار الحقيقي.

وأرى أنّ هذا الفكر الأكثر فاعليّة اليوم في ضربِ وحدة المسلمين من داخلهم بقصد أو بغير قصد، لاسيما ذلك التعصب من كلّ فئة تدّعي صِحّة سبيلها وسلامة منهجها وفساد غيرها وضلاله، كالخصومة القائمة اليوم بين المتشددين (القلّة) من السلفيّة ومن الصوفيّة ومن الإخوان، ولا أقول أن جميع تلك الجماعات على خطأ، بل قيدّتُها بمنْ حادَ عن الوسطيّة في كلّ واحدة منها، فخصومات تلك الفئات ساهمتْ في تفتيت وحدتنا، ونيل عدونا منّا، وتشويه الجماعة ككل ببعض الُمخربين الذين يَدّعون الانتساب إلى تلك الكتل. عِلمًا أننّي لستُ تَابعًا لأيّ من تلك التقسيمات، ولستُ مُعاديًا للمعتدلين منها، وأيضًا لست مع أيّ تسمية أو تصنيف يُقيّد ويُضيّق صفة المسلم الواسعة، فإسلامنا أكبر وأعظم من أن يتقوقع المسلم في جماعة معينة تبعده عن باقي المسلمين وتخصّه دونهم.       

التحدّيات التي تُواجه أهلّ السنّة والجماعة:

تُواجه أهلّ السنّة والجماعة تحدّيات عِدّة ومن أَطراف مُختلفة، منها تحدّيات خارجيّة: مُتمثّلة بمكائد الأعداء وأحقادهم وفِتنهم، وتحدّيات داخليّة (وهي الأخطر): المتمثّلة بالجهل والتعصّب، واتباع رؤوس الجهّال، ومراعاة أصحاب الهوى والأمراض النفسيّة والقلبيّة والفكريّة التي تضرب عمق الفكر الإسلامي. ومُجمل هذه التحدّيات: تشويه الفكر الإسلامي وتميّعه بشتّى الوسائل، واندلاع الحروب المدمّرة ضِدّ المسلمين السنّة بشكّل خاص، ودعم ومُحالفة مشاريع أعداء الإسلام السنّي، وضرب أيّ محاولة تجمع صفوفهم وتوحّد كلمتهم، وزرع الفتن والأحقاد والتحريض بينهم، والسعي في تقسيمهم وإفقارهم، فالغنى من عوامل القوة، وإغراء بعض المسلمين بترك دينه مُستغلين الفقر والجهل، وشيطنة الفكر الإسلامي بالهجمات الإعلاميّة الممنهجة، وتوظيف بعض المسلمين السذّج في تشويه الإسلام، والقيام بأعمال إرهابيّة وإلصاقها بالمسلمين السنّة، وتحكّم الأعداء في تولية حُكّام المسلمين المؤيدين لهم.

يقول أهلّ الطبّ والحكمة: "التشخيص الصحيح نصف العلاج". لم يعد المسلمون اليوم بمعزل عمّا يدور حولهم ويُحاك ضدهم، فقد عرفوا أعداءهم وممارساتهم وأسلحتهم وأهدافهم، فوجب عليهم الإعداد الصحيح للمواجهة، من خلال الوعي والحكمة، ومعرفة طريقة تفكير الخصوم، ثمّ تحضير المضادات اللازمة.

ولقد فطِن المسلمون السنّة أنَّ أمضى سلاح يواجه حجم العداء هو توحيد الكلمة والمرجعيّة، وهو ما يخشاه أعداؤهم، فأوّل جُرعة في طريق المواجهة الصحيحة هو رَصّ الصفوف، ثمّ نبذ الخلافات الثانوية، والتمسك بالقواسم المشتركة ونقاط الاتفاق، ودعم جميع عوامل الوحدة، وترك التعصّب والتشدّد بالرأي، والتواضع والتسامح فيما بينهم، وعدم السماح لتدخّل الأعداء بين الأخوة، وكشف خطط الخصوم وفضحها، وإطلاق لجنة في صياغة مفاهيم وثوابت ومرجعيّة يجتمع عليها أهلّ السنّة والجماعة.

ومن التوصيات المهمّة تفعيل دور الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في العمل على تحقيق أهدافه والتمسك بها، والعمل على توحيد جميع الاتحادات والرابطات والمجمعات الإسلامية وصهرها في بوتقة واحدة، ودعم المنابر ورفد الخطباء بالخطب المناسبة التي تساهم في توجيه المسلمين في الاتجاه الصحيح.

ومن الأهميّة بمكان الالتفات لجانب التربية والتعليم وسدّ هذا الثغر العظيم، كتأليف المناهج والبرامج المدرسيّة المعتدلة التي تبني فكر المسلم بشكل سليم، والاهتمام بتعليم الأطفال الفكر الناضج منذ نُعومة أظفارهم، وإنشاء روضات أطفال ومدارس ومعاهد وجامعات تُغني المجتمع المسلم بالفكر الصحيح.

وعلينا ألّا نقلل من دور الإعلام فهو سلاح ماض في هذا الزمن، فمن الواجب الاهتمام بالإعلام المرئي والمسموع، عبر إطلاق القنوات الهادفة إلى ترعى الفكر الإسلامي المعتدل وتُعرّفه، والاهتمام بوسائل التواصل الاجتماعي، ومواكبة التقنيات الحديثة التي تساعد في نشر فكر أهلّ السنّة والجماعة، وتنشيط الثقافة بدعمها بالأعمال الفنيّة من مسلسلات وأفلام ومسرحيات وبرامج ثقافية ومسابقات وملتقيات مُعرِّفة بأعلام أهلّ السنّة وأنشطتهم ودورهم والتحديات التي واجهتهم عبر التاريخ والحقب.

وعلى العلماء الصادقين النزول إلى أرض الواقع وميدان العمل، فوجود العالم بين عامّة النّاس أكبر حافز لربط العلم بالعمل والعامّة بالعلماء، وتنشيط الدعاة في البلدان التي تعاني من حرب تشويه صورة أهلّ السنّة والجماعة، وإعادة الثقة بين العلماء والعوام لاسيما بعدما اهتزّت وأصابها شيء من التشويه بوقوف ثلّة من (الشيوخ) المرتزقة مع السلاطين الطغاة الظالمين، وتحذير الشعوب من تلك الفئات العميلة، ولسدّ الطريق على المبشّرين والمشيّعين علينا إنشاء الجمعيات الإغاثيّة التي تقف مع الفقراء، والمساهمة في إيجاد فرص العمل لهم، والوقوف على مشكلاتهم ومعاناتهم، بالمقابل التصدّي لتلك الهجمات التي تستهدف أبناءنا وديننا وثقافتنا، وتحذير عوام المسلمين السنّة من خطر التشييع والتنصّر، وتفقيه المسلم بأحكام الردّة وتغيير الدين، وإقامة المؤتمرات الدوليّة التي تُعرّف بأهلّ السنّة والجماعة وبالإسلام المعتدل وتُحذّر من الغلوّ والتطرّف، وكافة مشاريع دعم الدراسات الفكريّة لأهلّ السنّة والجماعة، إضافة إلى مكانة العناية باهتمامات الشباب، ورعاية رغباتهم وتوجيه مسارهم في الطريق الصحيح فهم أمل المستقبل.

وهكذا بعدما حددّنا أعداء الفكر الإسلامي السنّي والتحدّيات التي تواجه جماعة المسلمين، أرجو أن تكون الحلول والوصايا التي اقترحتها مواتية لمواجهة تلك الاستعمارات التي اتفقتْ جميعها (مع تناقضها مع بعضها) على ضرب المسلمينَ السنّة، فهل سيكون وَعي أمتنا متناسبًا مع حجم تلك الهجمة؟!

عن الكاتب

فراس السقال

باحث في العلوم العربية والإسلامية واستاذ جامعي سوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس