تقرير ترك برس - حريّيت / ديلي صباح

اختار البنك المركزي التركي كما أعلن أمس إبقاء المعدلات الحالية للفائدة دون تغيير، موضحاً في بيانه أنّ لهذه المعدّلات تأثير إيجابي على التضخّم، ومؤكداً أنّ "أي قرار يخص السياسة المالية في المستقبل سيكون مُعلّقاً على توقّعات التضخّم".

لم يتوقّع كثير من الاقتصاديين أن يُقدِم المركزي التركي على خفض معدّلات الفائدة في 24 شباط/ فبراير قبل اجتماع الخزينة الفدرالية الأمريكية، وذلك لتفادي مزيد من ارتفاع الليرة مقابل الدولار، خاصّة وأنّ البنك كان قد خفّض الفائدة قبل ذلك في 20 كانون الثاني/ يناير.

ولم يرتَفع التّضخم في أسعار المستهلك في تركيا إلى المستوى الذي توقّعه المحلّلون في شباط، وفقاً لما أعلنه المعهد التركي للإحصاءات. وقد وضعت الحكومة خطّةً اقتصادية للمدى المتوسّط تتوقّع وصول التّضخم إلى 6,3 بالمئة بحلول نهاية العام، النّسبة التي يرى محلّلون أنّها ممكنة التحقيق ويتوقّعون مزيداً من خفض الفائدة. وهذه هي الأخبار الجيّدة قبل إعلان الخزينة الفدرالية الأمريكية مقرّرات اجتماعاتها ورؤية ما سيحل بقيمة الدّولار أمام الليرة، إلا أنّ هناك مخاطر في المدى المنظور يجدر الحديث عنها.

يواجه الاقتصاد التركي مخاطر دولَرَة سريعة، وبصيغة أخرى الهروب من الليرة التركية والتركيز على الدولار الأمريكي، كما يواجه انخفاضاً في الإنتاج في قطاع الصناعة، ممّا يؤثر سلباً على معدّلات النموّ ويؤدي إلى زيادة معدلات البطالة.

كان تدهور الليرة التركية أمام الدولار منذ بداية العام هو الأكثر من بين مجموعة "العملات الخمسة الهشّة". فقد ارتفعت "الروبية" الهندية منذ بداية العام وحتى 6 آذار/ مارس الجاري أمام الدولار بنسبة 1,5 بالمئة، وخسر "الراند" الجنوب أفريقي 4,1 بالمئة من قيمته أمام الدولار في الفترة نفسها، كما فقدت "الروبية" الإندونيسية 4,5 بالمئة من قيمتها أمام الدولار، في حين خسرت الليرة التركية 11,4 بالمئة من قيمتها في الفترة نفسها.

ولا يمكن مقارنة مستوى انخفاض قيمة الليرة بالعملات الأخرى. فمن بين هذه العملات الخمسة، كانت العملة الأقرب إلى الليرة هي الريال البرازيلي. ولو أنّ انخفاض الليرة كان مساوياً لانخفاض قيمة العملات الأخرى - عدا البرازيل - لكان تحرك البنك المركزي لخفض معدلات الفائدة والتدخلات بضخّ عملة الأجنبية قد ساهم بشكل أكبر في دعم الليرة. إلا أنّ الوضع الخاص لليرة التركية أدّى إلى فقدانها قيمتها بشكل حاد.

وربطت عدد من المؤسسات الدولية الفقدان الكبير لقيمة الليرة التركية بالضغط الذي فرضه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على البنك المركزي لخفض معدلات الفائدة، ولفقدان الثقة الناجم عن ذلك. وقد أدّى ذلك إلى رفع علاوة مخاطر الاستثمار في تركيا ممّا رفع قيمة الدولار عالياً.

ارتفاع علاوة المُخاطرة

أدّت الزيادة المتصاعدة في مقايضة عجز الائتمان (CDS) في تركيا في الأيام الأخيرة إلى خفض شهية المستثمرين الأجانب، ممّا أدى كذلك إلى تسلّق الدولار بشكل سريع فوق الليرة التركية. كانت مقايضة عجز الائتمان (CDS) في 16 كانون الثاني/ يناير تساوي 185 عندما فرض أردوغان ضغطاً على البنك المركزي وكانت قيمة الدولار 2,33 ليرة تركية.

ومنذ ذلك الحين، ارتفعت مقايضة عجز الائتمان كما ارتفع سعر الصّرف. في بداية الأسبوع الأسبوع الماضي بلغت علاوة المخاطرة 201 وكان سعر صرف الدولار 2,53 ليرة. وبحلول نهاية الأسبوع وصلت علاوة المخاطرة إلى 218 وارتفع سعر صرف الدولار إلى 2,65 ليرة.

بلغت علاوة المُخاطرة في البرازيل قيمة أعلى منها في تركيا، فقد بلغت 253. ومع ذلك، جاءت جنوب أفريقيا بعد تركيا بعلاوة مُخاطرة 195، تليها بلغاريا 171. وبلغت علاوة المخاطرة في البرتغال 129، وفي إسبانيا 92.

صعوبة التوقّف

أُعلِنت قيمة العجز في الحساب الجاري في شهر كانون الثاني/ يناير بحوالي 2 مليار دولار، وبلغ تدفق رؤوس الأموال الداخلي ما يقارب 7,5 مليار دولار. ومع ذلك، لا تعكس أرقام شهر كانون الثاني بالضرورة الوضع في شهري شباط/ فبراير وآذار/ مارس. فقد تغيرت الظروف بشكل كبير. ربّما لا يزال العجز في الحساب الجاري منخفضاً الآن بسبب التراجع في القطاع الصناعي الذي أدّى إلى انخفاض الواردات الصناعية، ولكنّ المُلاحظ أنّ تدفق رؤوس الأموال إلى تركيا انخفض بشكل ملحوظ في شباط وآذار. وقد أدّى تدفّق رؤوس الأموال إلى الخارج إلى رفع قيمة الدولار.

ومع تضارب التوقّعات حول اجتماع الخزينة الفدرالية الأمريكية (FED) والمخاوف من رفع معدّلات الفائدة في هذا الاجتماع، في وقت ارتفع فيه مؤشر الدولار إلى 98,5، في بيئة كهذه يبدو من الصّعب على البنك المركزي التركي لوحده أن يوقف تصاعُد الدولار من خلال القرارات التي اتخذها واحداً تلو الآخر.

وحتى تتم السيطرة على توازن الدولار-الليرة ولكي تكون خطوات البنك فعّالة، بدايةً ينبغي أن يكون هناك قطع في مسألة الدّولَرَة التي تنمو بالتزامن مع الارتفاع السريع لمؤشر الدولار عالمياً.

ومع ذلك، من المهم بالنّظر إلى "عملية السلام الداخلي" أن يعود تدفق المعلومات المتعلّقة بالبنك المركزي إلى طبيعته بشكل كامل، وأن يظهر للأسواق تكاملٌ كلي بين البنك والحكومة. وفي هذا السياق، لا يمكننا أن نعرف مدى فاعلية استخدام الاجتماع بين الرئيس أردوغان ونائب رئيس الوزراء علي باباجان ومحافظ البنك المركزي إردِم باشجي في الحدّ من التوتر؛ ومع ذلك تبدو الرياح الدولية بشكل خاص وكأنّها ستهمّش إلى حدّ كبير جهود صناعة الصورة هذه.

كان من الصعوبة بمكان للبنك المركزي في اجتماعه أمس أن يبدأ تحرّكاً جديداً ويخفّض معدّل الفائدة كما يأمل أردوغان ومساعدوه، بسبب الوضع الحالي لقيمة الدولار أمام الليرة والغموض بشأن اجتماع الخزينة الفدرالية الأمريكية. إلا إذا كان هناك تطوّر إيجابي في الظروف المحلية والدولية الراهنة، ويبدو أنّ من المرجّح أن يتبنّى البنك المركزي سياسة "انتظر لنرى".

إذا كان سعر الدولار مقابل الليرة قد وصل إلى 2,65، فإنّ وصوله إلى سعر 2,68-2,70 سيعتمد بشكل كبير على عوامل نفسيّة. ثمّ سيعتمد صعوده إلى عتبة 2,80 على الأخبار القادمة من الخزينة الفدرالية الأمريكية.

توجّه الإنتاج الصّناعي نحو الهبوط

حرمت وتحرم عاصفة الدّولرة الكثيرين من النّوم، وخاصة أولئك المُحمّلون بديون خارجية يصل مجموعها إلى 400 مليار دولار. ويعود ثُلثا هذا الدين إلى القطاع الخاص. وعلاوة على ذلك، فإنّ 40 بالمئة من هذا الدّين يستحق الدفع خلال 12 شهراً. وإنّ أي صعود في الدولار يعني خسارة ليرات عند التحويل.

وليس سراً أنّ هذا الوضع يقلب الميزانيات العمومية للشركات المُقرِضة رأساً على عقب ويؤثر بشكل سلبي على كل القرارات الاستثمارية. خاصةً في قطاع الصناعة، مما يخلق انكماشاً يؤدي إلى انكماش السوق المحلي والصادرات، الأمر الذي بدأنا نشهد نتائجه في الإحصاءات.

وقد أظهرت بيانات شهر كانون الثاني/ يناير التي أعلنها المعهد التركي للإحصاءات (TÜİK) في 9 آذار/ مارس الجاري أنّنا دخلنا مرحلة هامة في هبوط الإنتاج الصناعي. وبالمقارنة مع شهر كانون الأول/ ديسمبر، انخفض الإنتاج الصناعي في شهر كانون الثاني بنسبة 1,4 بالمئة.

إذا قمنا بتصنيف المواد التي هبط إنتاجها من الأكثر إلى الأقل، نجد أنّ إنتاج الحواسيب والإلكترونيات والمنتجات البصريّة، والمعدات الكهربائية، انخفض بنسبة تتراوح بين 9 بالمئة و12 بالمئة. ويُنظر إلى الارتفاع الحادّ للدولار كمؤثر رئيسي على انخفاض إنتاج هذه المنتجات.

وتجدر الإشارة إلى أنّ "المنتجات المعدنية" مثل الزجاج، والسيراميك، والطّوب والأسمنت، التي تستخدم في البناء انخفض إنتاجُها بنسبة 6,2 بالمئة في شهر واحد. وبالتحديد، أدى الهبوط في صادرات الأسمنت إلى العراق إلى انحسار حجم هذا القطاع.

انخفاض انتاج السجائر بنسبة 6 بالمئة كان أمراً ملفتاً كذلك. كما يُعدّ الانخفاض في المعادن الأساسية، مثل الحديد والصّلب، والأدوية، والأنسجة والطّعام أمراً مرتبطاً بانخفاض الطّلب على المستوى المحلي، وجزئياً إلى انخفاض الصّادرات. وقد هبطت الصّناعة التحويلية بشكل عام بنسبة 1,4 بالمئة في كانون الثاني.

الخوف من فقدان العمل

ورد في تصريحات عدد من الاقتصاديين والمسؤولين أنّ الانخفاض في الإنتاج الصّناعي قد يستمر في الأشهر القادمة. وسيكون ذلك مرتبطاً بمسار الرّكود للطلب المحلي بسبب تصاعد سعر صرف الدولار وعدم انخفاض أسعار الفائدة. وتترافق هذه السلبية مع انخفاض قيمة اليورو أمام الدولار والهبوط في الصادرات.

يؤدّي انخفاض الطّلب على المستويين المحلي والخارجي إلى تقليص القدرات في عدد من أماكن العمل ويعتقد البعض أن يبدأ ذلك في هذا الشهر، حيث سيبدأ أصحاب الأعمال باتّخاذ احتياطات تتعلّق بالعمال. وقد يؤدي خفض العمالة في المراكز الصناعية مثل مدن "كوجاعلي"، و"بورصا"، و"تكيرداغ" والذي يبدأ بإجازات غير مدفوعة إلى حدوث أزمة، مثلما حدث في عام 2009.

فقد أخذت أسعار الصرف في عام 2009 منحى ارتفاعٍ مُطّرد مع تأثير الأزمة العالمية، ونتيجة للانخفاض في الطلب المحلي ارتفعت البطالة إلى 15 بالمئة.

وتجدر الإشارة كذلك إلى أنّ الميل إلى حلّ الأزمة يكون في الغالب على حساب الموظّفين، خاصّة في الأماكن التي تفتقر إلى الاتّحادات العُمّالية. وحتّى في أماكن العمل التي توجد فيها اتّحادات نشيطة للعمال رُبّما تُتّخذ بعد الإجراءات على حساب العمّل بالاتّفاق مع الاتّحادات نفسها.

إنّ خطر البطالة النّابع من الانخفاض في الإنتاج الصّناعي سيتمّ الإحساس به كذلك في بعض فروع قطاع الخدمات.

سيؤدي الركود في قطاع الخدمات إلى انخفاض في العمالة في مواقع البناء. كما سيؤدي الانخفاض في مبيعات قطاع التجزئة إلى خفض العمالة في هذا القطاع، الأمر الذي سيمتدّ إلى قطاعي التمويل والعقارات وقطاعات الخدمات الأخرى، وهكذا مع انخفاض صرف الإعلانات يُقدّر البعض أن ذلك سينعكس على قطاعات الإعلام والاتّصالات.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!