احسان الفقيه - خاص ترك برس

يقول الفيلسوف الإنجليزي (توينبي TOYNBEE): "الإمبراطورية العثمانية هي الدولة الوحيدة التي جمعت الشرق الأوسط تحت حكمها أطول حقبة في التاريخ وذلك أمر لم تتوفّق به الإمبراطوية الفارسية أو الرومانية أو العربية"،،

ويضيف توينبي: "كافة الأقوام الناطقة بالعربية اجتمعت تحت راية دولة واحدة"..

* أطلق المؤرّخون المعاصرون على الأسلوب العثماني الذي حكم الشرق الأوسط لعدّة قرون مصطلح pax ottomana وهو يقابل pax romana وهو التعبير اللاتيني لمفهوم النظام العالمي الذي يرد ذكره في (دستور فاتح (قانون نامه))..

ويؤكد المستشرق الألماني BABINGER على أن الدولة العثمانية كانت دولة عالمية بحق .. وهو ذات ما أشار اليه GRAUSSET من الأكاديمية الفرنسية حيث يقول:

"كانت الامبراطورية العثمانية دولة عثمانية كبرى عالمية فعليا".

* بإمكاننا أن نسترسل أكثر في إيراد الكثير من كتابات المؤرّخين الأجانب والأتراك التي تناولت موضوع نشأة الدولة العثمانية واتّساعها وهو أمر لا ينكره أو يقلّل منه إلا جاهل أو حاقد ولكننا نكتفي اليوم.. لنورد (ما تيسّر) في مقالات أخرى.

- مائة وخمسون مليون وثيقة، هي ما يحويه الأرشيف العثماني الذي يعد ثالث أكبر أرشيف في العالم من حيث عدد الوثائق.

- هل تعرفون عن الأرشيف العثماني (بما يحتوي) بمقدار ما ينبغي (احتراما) لمن عملوا ووثّقوا وقبلها تمدّدوا بالجهد والدم والدهاء والكفاح الطويل؟

* ضمن حوالي 50 % من وثائق الأرشيف الهائل - وهي ما تم تصنيفه – تنسج كل وثيقة حكاية في علاقة الأتراك بالعرب، تلك الحكايات التي لا أملّها ولا تملّني، فهي لي سيدة أوقات التعب في زمن القحط، بل وبارقة الأمل ومِعقده.

ومن تلك الوثائق التي غرقت بها بل وأغرقتني، هي علاقة الدولة العثمانية ببلاد اللؤلؤ، هل سمعتم بها؟

تلك البلاد المحبّبة إلى قلبي وقلب كل مُخلص..

في فترة ما.. كان رُبع عدد سكانها يعملون في صيد اللؤلؤ، وهو أهم ما تميّزت به تلك البلاد في السابق وصنعت من أجله العديد من السفن، وهي المهنة الأساسية لأهلها والتي يجنون بها أرباحا هائلة تكفل لهم رغد العيش.

* عن قطر بلاد اللؤلؤ وعلاقتها بالدولة العثمانية أتحدث..

لم تكن قديما تسمى باسم "قطر"، وإنما كانت تابعة لمنطقة كبيرة تسمى البحرين، تشمل المنطقة الشرقية من السعودية، والبحرين والكويت، وقطر وجزءًا من الإمارات.

تلك المنطقة التي جثم القرامطة الشيعة على صدرها منذ القرن الثالث الهجري إلى أن أنقذها منهم السلاجقة بمشاركة قبيلة عبد القيس في النصف الثاني من القرن الخامس الهجري.

كانت تلك المنطقة مطمعا للبرتغاليين والإنجليز والهولنديين لوجودها على الطريق الذي يصل أوروبا بالمياه الدافئة، بالإضافة إلى أن طرق التجارة إلى الهند تمتد إلى تلك المنطقة..

قامت الجيوش البرتغالية باحتلالها خلال الفترة التي كانت تحكمها بطون بني عقيل.

فكانت البداية الحقيقية للتماسّ العثماني القطري، عندما أرسل السلطان سليمان القانوني قواته العثمانية إلى المنطقة وأجْلت البرتغاليين عام 1555م، والذين انحصر تمركزهم في نقاط صغيرة بجنوب الخليج.

ولم يُخرج قطر التابعة لمنطقة البحرين من سلطة الدولة العثمانية سوى الثورة التي قام بها آل حميد من بطون قبيلة بني خالد وذلك بعد دب الضعف في الإمبراطورية العثمانية، ليعلن بنو حميد أنفسهم ملوكا على الأحساء سنة 1669م.

وفي القرن الثالث عشر الهجري جعلت قطر تتنقل بين السيادة السعودية والبحرينية حتى عام 1284 هجرية، ليشهد العام التالي 1285هجرية (نزول آل ثاني إلى الدوحة تحت زعامة الشيخ محمد بن ثاني) والذي استطاع أن يوحد القبائل القطرية ويواجه بها خصومه من آل خليفة في البحرين.

وبحلول عام 1871 م، أصبحت قطر محمية عثمانية بطلب من محمد آل ثاني، ليعود النفوذ العثماني من جديد في قطر، ويبدأ صراع النفوذ بين العثمانيين والبريطانيين في تلك المنطقة.

ولئن كان محمد بن ثاني هو الذي وحّد القبائل القطرية، فإن قاسم أو جاسم بن محمد آل ثاني كما ينطق الخليجيون، يعد المؤسس الفعلي الحقيقي لقطر، وقد ناب في حياة أبيه ووقعت في عهده معارك مع البحرين، وركز جهوده في تجارة اللؤلؤ، وكان شجاعا فارسا فصيحا، وكان في الوقت ذاته خطيب الجمعة والقاضي والمُفتي، وله باع في الشعر.

كانت الدولة العثمانية تحرص على ربط الشيخ جاسم بالباب العالي لمواجهة نفوذ بريطانيا في المنطقة، والتي كانت تهدف إلى بناء قاعدة في الخليج لضمان سهولة الاتصال بمستعمرتها في الهند.

ورفض الشيخ جاسم أن يقع فريسة لبريطانيا، وهو ما أوقعه تحت ضغط بريطاني هائل، حيث أرسل إليه القنصل الإنجليزي الذي يقيم في (بوشهر الإيرانية) خطابات عام 1881م، تحمل تهديدا بإحراق كافة السفن القطرية إن لم يستجب الشيخ جاسم لدفع ثلاثين ألف روبية بدعوى تدخله في شؤون البحرين على نحو مخالف للسياسة البريطانية، إلا أن الشيخ جاسم رفض الوقوع ضحية الابتزاز البريطاني، وأرسل إلى (متصرفية نجد) يخبرهم بالواقعة.

ساءت العلاقات بين الشيخ جاسم والدولة العثمانية، عندما حاولت الأخيرة القيام ببعض الإصلاحات الإدارية في قطر حتى تتمكن من السيطرة على الأوضاع، وهو الأمر الذي أثار الخلافات التي وصلت إلى حد نشوب القتال، حيث اشتبكت قوات الشيخ جاسم مع العثمانيين في موقعة الوجبة عام 1893م، والتي كان النصر فيها حليف قوات الشيخ جاسم.

وبالرغم مما وقع من الخلافات بين الجانبين، إلا أن الشيخ جاسم قد وعى المخطط البريطاني في الخليج والرغبة في السيطرة على المشيخات، الأمر الذي جعل مؤسس الدولة القطرية يعيد التقارب مع الدولة العثمانية.

وبحسب ما ورد في الفصل الخامس من كتاب: "الجزيرة العربية..بحوث ودراسات من وثائق الأرشيف العثماني" فقد أشارت إحدى وثائق الأرشيف إلى أن "الشيخ جاسم قد أصبح في أخريات حياته مُظهراً للصداقة الحميمة تجاه الدولة العثمانية، وأنه وضع بذلك حداً للآمال الإنجليزية تجاه قطر، ولم يأذن بأي تدخل أجنبي في شؤون قطر، وأنه أدار البلد بسياسة حكيمة.

وذكرت الوثيقة ذاتها التي تحدثت عن أولاد الشيخ جاسم الخمسة، أن أقربهم إلى سياسة الدولة العثمانية هو عبد الله".

ولقد برز التناغم في العلاقات القطرية العثمانية خلال حروب البلقان التي خاضتها الدولة العثمانية، حيث أسهم الشيخ جاسم بصورة مباشرة في جمع المساعدات الحربية لصالح الدولة، وتبرع بمبلغ قدره 25 ألف روبية.

وكان نص التلغراف الذي أرسله الشيخ جاسم للدولة العثمانية في مارس 1913م:

"بناءاً على تشويقات عطوفة السيد طالب بك ناظر قومسيون إعانات الحربية في البصرة، قدمنا ألف وثمانمائة واثنين وثلاثين ليرة عثمانية، المرجو عرض ذلك لأعتاب الخلافة الإسلامية".

وحاولت الدولة العثمانية الحفاظ على نفوذها في قطر، إلا أن الاضطرابات التي عصفت بكيان الدولة قد أنهكتها وفككتها وبددت نفوذها، ولم يعد بمقدورها مواجهة النفوذ البريطاني.

ونتيجة لذلك عقدت الدولة العثمانية اتفاقية مع بريطانيا في يوليو 1913م، تخلت بموجبها عن جميع حقوقها في شبه جزيرة قطر، لتظل قطر بعدها تحت الهيمنة البريطانية إلى أن نالت الاستقلال عام 1971م.

* ولنستفِق من سكرة الغوص في التاريخ على طبول الواقع، لنرى هذا التناغم التركي القطري الآخذ في التنامي والصعود.

لمسناه في ذلك الوقت الموقف الشريف المتشابه من رفض الانقلاب على الشرعية في مصر، والفصل بين الموقف من النظام والموقف من الشعب.

لمسناه في الموقف الشريف المتشابه في استقبال المظلومين والمضطهدين وإكرامهم.

لمسناه في الموقف الشريف المتشابه في دعم القضية الفلسطينية والمقاومة.

أفرزت تلك الرؤية المتقاربة للظروف الإقليمية والملفات الساخنة، تلك الاتفاقية العسكرية التي عقدها الطرفان وأثلجت صدور قوم وأغاظت آخرين، حيث اعتبرت تلك الاتفاقية  جزءًا من توجه لإقامة حلف سني في مواجهة المشروع الصفوي الإيراني، والذي قطفنا أول ثماره مع انطلاق عملية "عاصفة الحزم" التي قادتها السعودية بدول الخليج ودول أخرى للإجهاز على الانقلاب الحوثي على الشرعية في اليمن، والذي هو بالأصل حلقة بالمشروع الإيراني.

* قطر باعتبارها جزءًا من الخليج يأتي الاهتمام بها على قائمة أولويات السياسة الخارجية التركية، وهو ما عبر عنه داود أوغلو في كتابه "العمق الاستراتيجي" بقوله:

"يعتبر الخليج العربي وطرق اتصاله مع البحر الأبيض المتوسط عبر البحر الأحمر، واتصاله مع المحيط الهندي عبر مضيق "هرمز"، من الأحواض البحرية الهامة التي يمكنها أن تدعم التأثير القاري لتركيا، وكان ابتعاد تركيا عن التأثير في هذه المنطقة بالرغم من قربها من الخليج الذي يمتلك أهم موارد الطاقة في العالم أهم نقطة ضعف في ماضي السياسة الخارجية التركية.

إن إهمال تركيا لسياسات الشرق الأوسط والخليج حتى عقد الثمانينيات أدى إلى بقاء تركيا بعيدة عن الموارد الغنية للمنطقة وعدم قدرتها على الاهتمام بالخليج إلا بمقدار ما تسمح به القضايا الخاصة بقاعدة إنجرلك. لا تنظر دول الخليج إلى تركيا كقوة إقليمية، كما لا تنظر مراكز القوى الدولية إلى تركيا كطرف مهم في المداولات السياسية للمنطقة".

===

الأيام القادمة حبلى بالمفاجآت لاريب، وعلى عواتق الشرفاء من بني قومي تقع المسؤولية في أن يكونوا طرفا فاعلا في الأحداث التي يبرز في خضمّها سباق محموم للمشاريع المحملة على أيديولوجيات مختلفة.

 ===

عن الكاتب

احسان الفقيه

كاتبة أردنية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس