سعيد الحاج - المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

جددت يوم 27 أيلول/ سبتمبر 2020 المعارك بين القوات الأذرية وقوات تدعمها أرمينيا في إقليم ناغورنو قره باغ، في محاولة عسكرية، تُعَدّ الأقوى حتى الآن، شنّتها أذربيجان لاستعادة السيطرة على الإقليم الذي تعترف منظمة الأمم المتحدة بسيادتها عليه. فالمعارك التي تجري في الإقليم هي الأعنف منذ أربع سنوات، حيث سقط حينها أكثر من 200 قتيل من الطرفين.

أولًا: خلفيات النزاع

النزاعات في القوقاز قديمة ويصعب العودة إلى جذورهاـ ولكن النزاع الحدودي الحالي تعود جذوره إلى عام 1923؛ حينما منح الزعيم السوفياتي، جوزيف ستالين، إقليم ناغورنو قره باغ ذا الأغلبية الأرمينية حكمًا ذاتيًا بعد أن ألحقه بأذربيجان، بينما أبقى على إقليم ناختشيفان ذي الأغلبية الأذرية – والذي كان يتبع إيران قبل أن تنتزعه منها روسيا في حرب عام 1828 – مع أرمينيا في إطار حكمٍ ذاتي أيضًا. وكانت أذربيجان وأرمينيا من جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقًا.

ومع انهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، وإعلان كلٍ من أرمينيا وأذربيجان استقلالهما، أعلن إقليم ناغورنو قره باغ عن نشوء سلطة محلية مستقلة أيضًا؛ ما دفع أذربيجان إلى إلغاء الحكم الذاتي، والدخول في حرب مع المجموعات الانفصالية التي دعمتها أرمينيا. انتهت الحرب عام 1994، بخسارة أذربيجان الإقليم، إضافة إلى ستة أقاليم أخرى تشكل بمجموعها خُمس مساحة أذربيجان، فضلًا عن سقوط 30 ألف قتيل وتهجير حوالى مليون شخص أغلبيتهم من الأذريين.

أنشأت منظمة الأمن والتعاون في أوروبا مجموعة “مينسك”، بقيادة الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وفرنسا، لإيجاد حل سلمي للأزمة. كما أصدرت الأمم المتحدة أربعة قرارات تطالب القوات الأرمينية بالانسحاب من المناطق التي احتلتها؛ وهي قرارات مجلس الأمن أرقام 822 و853 و874 و884 لعام 1993، وقرار الجمعية العمومية رقم 10693 لعام 2008 الذي أكد وحدة الأراضي الأذرية، وطالب بانسحاب القوات الأرمينية من كل المناطق المحتلة. وقد تجدد الصراع بين الجانبين مرارًا، كان آخرها في تموز/ يوليو 2020، حيث قتل حوالى 20 شخصًا.

ثانيًا: مواقف القوى الخارجية الرئيسة

بلورت الأزمة بين أذربيجان وأرمينيا، منذ بدايتها، دينامياتها التاريخية والعرقية والجيوسياسية، ولم تطرأ تغيرات جذرية على خريطة التحالفات والاصطفافات حولها، ويُعدّ الموقفان الروسي والتركي الأكثر أهمية في الصراع الدائر حول الإقليم.

الموقف التركي

تقف تركيا إلى جانب أذربيجان لعدة اعتبارات ثقافية/ قومية وجيوسياسية واقتصادية، ولا سيما ما يتعلق منها بأمن الطاقة. وقد أيدت أذربيجان بدورها موقف أنقرة في الصراعات الدائرة في سورية وليبيا وشرق المتوسط. وقد لوحظ في هذه الجولة من المعارك ارتفاع سقف الموقف التركي المؤيد لأذربيجان، سواء على مستوى الرئاسة أو مؤسسات الدولة والأحزاب السياسية، بما فيها المعارضة، وشملت التصريحات التركية الاستعداد لتقديم “كافة أنواع الدعم” لأذربيجان، وحتى التدخل عسكريًا إن طلبت الأخيرة ذلك.

تلقت القوات المسلحة الأذرية الدعم والتدريب من نظيرتها التركية، سنوات طويلة؛ بموجب اتفاقية التعاون الاستراتيجي الموقعة بينهما عام 2010. ويُجري البلَدان أكثر من 10 مناورات عسكرية مشتركة سنويًا، وقد وقّعا في شباط/ فبراير 2020 اتفاقات للتعاون العسكري والأمني، تتلقى بموجبها باكو معدات عسكرية بقيمة 200 مليون ليرة تركية (نحو 30 مليون دولار). وتحتل تركيا المرتبة الثالثة في قائمة الدول المصدرة للسلاح إلى أذربيجان، بعد روسيا وإسرائيل. وقد رفعت في السنوات الأخيرة من حجم صادراتها إليها، بما في ذلك الطائرات المسيّرة من دون طيار التي استخدمتها باكو في المعارك الأخيرة. وقد أدى الدعم التركي إلى رفع جاهزية الجيش الأذري في الجولة الحالية من القتال، واستعادة عدة قرى من القوات الأرمينية خلال أيام المواجهات الأولى.

الموقف الروسي

تجمع روسيا بأرمينيا علاقات متينة وتعاون استراتيجي، حيث تتقدم الأولى قائمة الدول المصدرة للسلاح إلى الثانية، وتستضيف أرمينيا قاعدة عسكرية روسية كبيرة على أراضيها بالقرب من الحدود مع تركيا. ورغم أن الموقف الروسي في هذه الجولة يميل أكثر إلى التوازن، بسبب الخلافات بين موسكو والقيادة الحالية لأرمينيا التي أتى رئيسها نيكول باشينيان بعد الثورة المخملية وقاد مسار تقارب مع الغرب، والتي أدت إلى أزمة ثقة خففت حماس يريفان للوساطة الروسية، فإن روسيا التي تريد أن تلقّن أرمينيا درسًا مفاده ألّا تنتظر مساعدة الغرب، لن تقبل على الأرجح بهزيمة أرمينيا أمام أذربيجان؛ لاعتبارات جيوسياسية واقتصادية متصلة بمخاوف موسكو من علاقات أذربيجان المتنامية مع الغرب، وتحولها إلى بديل للطاقة التي تصدرها روسيا إلى أوروبا. ويشار إلى أن معظم الاشتباكات الحالية تدور على الحدود بين أذربيجان وأرمينيا، بما يهدد خطوط نقل الغاز الطبيعي من المنطقة، ولا سيما المشاريع التركية – الأذرية.

ثالثًا: تفاعلات الصراع واحتمالات تطوره

تنحاز تركيا إلى جانب أذربيجان انحيازًا كاملًا ومعلنًا، بينما تدعو كل من روسيا وإيران لوقف إطلاق النار وإطلاق مسار سياسي، وإن كان ميلهما واضحًا إلى أرمينيا، في مقابل غياب شبه تام للولايات المتحدة المنشغلة بانتخاباتها الرئاسية الوشيكة، وصمت الاتحاد الأوروبي الذي لم يصدر عن قمة قادته الأخيرة أيّ إشارة إلى الأزمة. يرجح ذلك استمرارَ الاشتباكات بين الطرفين حاليًا، ويؤكده عدم تجاوب الجانبين مع الدعوات الروسية للتهدئة والحوار. لكن توسّع الاشتباكات لتتحول إلى حرب مفتوحة ليس مرجّحًا؛ لأن ذلك قد يحولها إلى حرب إقليمية أوسع، لن تسمح بها روسيا، لما للمنطقة من أهمية جيوسياسية واقتصادية، وكذلك بسبب تشابك منظومة التحالفات وتعقّدها فيها.

في المرحلة الراهنة، تعوّل باكو على تحقيق إنجازات ميدانية سريعة يمكن تحويلها إلى أوراق ضغط على أرمينيا في أي عملية سياسية لاحقة؛ لأن طبيعة المنطقة الجبلية ووعورة مسالكها تجعل من الصعب تحقيق نصر عسكري حاسم. ولا يرجَّح أن تقوم مجموعة منسك حاليًا بدور مؤثر في حل الأزمة، بينما توجه تركيا انتقادات إليها وإلى الأمم المتحدة في ضوء فشلها في تحقيق أي تقدم بخصوص تطبيق قرارات مجلس الأمن. ويبدو أن تركيا التي تستغل غياب الولايات المتحدة والتسامح الأميركي مع نشاطها الإقليمي في عهد الرئيس دونالد ترامب، تحاول تأسيس إطار إقليمي أو دولي بديل للمساهمة في حل تكون هي جزءًا منه. على هذا الأساس، يرجَّح حصول تفاهمات تركية – روسية حول أزمة القوقاز، شبيهة بالتفاهمات التي قامت بين البلدين في سورية وليبيا في غياب الولايات المتحدة؛ لما تملكه الدولتان من إمكانية التأثير في طرفَي الصراع. ويدعم هذا التوقع توافق موسكو وأنقرة على ملامح اتفاق لوقف المعارك، وحصول تواصل دبلوماسي بينهما حولها. وبناء عليه، فإن سيناريو الإبقاء على الوضع القائم والمراوحة بين فترات التهدئة والتصعيد هو الأكثر احتمالًا حاليًا، بينما يمكن أن تدفع التطورات الميدانية إلى حالة من التفاوض بين الجانبين بوساطة روسية أو روسية – تركية على المدى المتوسط.

رابعًا: انعكاسات الصراع على المنطقة العربية

أعربت المملكة العربية السعودية ومصر عن قلقهما من تصاعد حدة التوتر في المنطقة. أمّا أمير دولة قطر، تميم بن حمد آل ثاني، فهاتف الرئيسين الأذربيجاني والأرميني لبحث سبل حل الأزمة، كما طلبت أرمينيا مساعدة مصر في وقف ما أسمته “العمليات العسكرية التي تشنها أذربيجان” ضدها. ويمثل اتخاذ موقف واضح من الجولة الحالية من الصراع تحديًا لأكثر الدول العربية؛ لأن الطرفين المباشرين (أرمينيا وأذربيجان) يتلقيان دعمهما من تركيا أو إيران، كما يقيم الطرفان علاقات ممتازة مع روسيا، وإن بدت تغطية وسائل إعلام في بعض هذه الدول، وخصوصًا الإمارات العربية المتحدة ومصر، متأثرة أكثر بحالة الاستقطاب مع أنقرة؛ فتبدو المواقف أشبه بردود فعل على ما تقوم به تركيا.

ويثير الموقف الإسرائيلي من الصراع الكثير من الانتباه؛ إذ تتمتع إسرائيل بعلاقات وثيقة مع أذربيجان، وتتعاون معها في مواجهة إيران الأقرب إلى أرمينيا. وتعدُّ إسرائيل ثاني أكبر مصدر للسلاح إلى أذربيجان بعد روسيا، ومن المحتمل أن تتعزز العلاقات بين الطرفين أكثر بسبب الأزمة الحالية.

أما في سورية، فقد أثار الصراع حالةً أكبر من الجدل، خصوصًا في ضوء الاتهامات المتبادلة بنقل مقاتلين سوريين إلى منطقة النزاع؛ حيث اتهم الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، تركيا بنقل مقاتلين سوريين للقتال في ناغورنو قره باغ. وهو الاتهام نفسه الذي وجهته تركيا إلى أرمينيا.

لكن الانعكاسات الأهم لأي تصعيد محتمل في الأزمة على العالم العربي ترتبط أساسًا بأمرَين: احتمالية تحوله إلى حرب مفتوحة، ومسار العلاقات التركية – الروسية. فإذا تطورت المواجهة بين أذربيجان وأرمينيا إلى حرب مفتوحة – وهو احتمال قائم، وإن كان غير مرجَّح – فسيكون لذلك انعكاس مباشر على خطوط إمداد الغاز ومن ثمّ أسعاره العالمية؛ وهو أمر سيكون له ارتداداته على دول الخليج العربي على وجه الخصوص، وهي التي تشكل جزءًا مهمًا من سوق الطاقة العالمية. كما أن توسع رقعة المواجهة بين باكو ويريفان قد يهدد استقرار العلاقة بين أنقرة وموسكو، على نحوٍ قد يؤدي إلى انعكاسات سلبية على تفاهماتهما في سورية وليبيا، مع ارتدادات مباشرة على الملفَّين.

في الوضع الراهن، قد يعطي تقدُّمُ أذربيجان الميداني أنقرةَ أفضليةً في حال ظل محدودًا، رغم أن تجارب المفاوضات الروسية – التركية، ولا سيما في سورية، لم تشهد تنازلات روسية ملحوظة. أمّا إذا انهارت الدفاعات الأرمينية كليًّا، في ضوء الدعم التركي الكثيف لأذربيجان، فسنشهد على الأرجح تطوراتٍ عسكريةً كبيرة على جبهة إدلب؛ إذ قد توافق روسيا على مطلب النظام السوري بشن هجوم عسكري كبير في المحافظة. أمّا إذا ما استطاعت أرمينيا احتواء التقدم الأذري، فسيكون ذلك ورقة قوة إضافية لموسكو. وفي كل الأحوال، لا يبدو أن للصراع في القوقاز انعكاسًا إيجابيًا على الأزمة السورية

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس