ترك برس

شهدت فلسطين، قبل قرن ونيف، إنشاء خط سكة حديد ربط قديما مدينتي يافا والقدس الفلسطينيتين، وأثارت جدلاً واسعاً حينها، ليستمر هذا الجدل إلى يومنا هذا مغلفاً بالكثير من المعلومات المغلوطة وغير الدقيقة.

أبرز المعلومات المغلوطة المتداولة حول هذا المشروع، أن الدولة العثمانية هي من أنشأت هذا الخط وربطته مع خطوط أخرى ليصل إلى الحجاز، لكن الحقيقة أن هذا الخط أنشأه اليهودي يوسف نافون الذي حصل على امتياز خط القطار يافا القدس من الدولة العثمانية عام 1888.

ووفقا للباحث الفلسطيني خالد عودة الله الذي كتب مقالا مطولا بعنوان "يافا-القدس.. تاريخ موجز لسكة الاستعمار"، فإن نافون تعثر في الحصول على تمويل يهودي فتلقفت فرنسا المشروع، وهكذا وُلدت شركة القطار العثمانية من يافا إلى القدس وفروعها بإدارة الفرنسي برنارد كولاه، ومُنح نافون وسام الشرف الفرنسي على دوره في زيادة النفوذ الفرنسي بالمنطقة من خلال مشروع القطار.

ووصف عودة الله في مقاله هذه السكة بأنها لم تكن عثمانية ولا فلسطينية بقدر ما كانت سكة استعمارية أوروبية في فلسطين خلال فترة الحكم العثماني، كما لم تكن بين مدينتين فلسطينيتين بقدر ما كانت بين ميناء يافا والقدس، مدينة الحجيج الأوروبي وموطئ القدم الاستعماري في فلسطين، كما أن هذه السكة تكثف قصة الاستعمار الأوروبي لفلسطين عبر 3 حقب زمنية هي العثمانية والإنجليزية والصهيونية، بحسب تقرير لـ "الجزيرة نت."

وبحسب الباحث الفلسطيني، كان لهذا الخط 8 محطات هي يافا واللد والرملة وسجد ودير آبان وبتّير والولجة والقدس، إلا أنه لم يتم الانتهاء من تشييد محطة الولجة، فتقدم العمل بسرعة في القسم الساحلي من السكة ما بين محطتي يافا ودير آبان، فيما كان العمل بطيئا وشاقا في القسم الجبلي، ما بعد محطة دير آبان وصولا إلى محطة القدس في البقعة، وذلك نظرا للطبيعة الجبلية، فاستخدمت المتفجرات لشق مسار السكة في جبال وادي الصرار ووادي السكة.

في 26 سبتمبر/أيلول 1892 افتتح خط يافا القدس، وانطلقت القطارات في رحلة يومية واحدة في كل اتجاه، من القدس الساعة السابعة والربع صباحا لتصل إلى يافا الساعة الـ11، ومن يافا الساعة الثانية والثلث لتصل إلى القدس السادسة مساء، وبيعت تذاكر الدرجة الأولى بـ4 دولارات، والثانية بـ33 سنتا.

يقول المؤرخ الفلسطيني جوني منصور إن الأهداف التي أعلنت لإنشاء هذا الخط آنذاك كانت دينية، وذلك لتسهيل انتقال الحجاج المسيحيين الأوروبيين من يافا إلى مدينة القدس في نهاية القرن الـ19، ولتطوير الحركة التجارية الأوروبية في الدولة العثمانية، في ظل تنافس الدول الأوروبية على أن يكون لها موطئ قدم في المنطقة.

ويضيف منصور أنه من الصعب القول إن الفلسطينيين استفادوا من هذا الخط، بل إن المستفيد الأقوى كان المشروع الصهيوني عبر إقامته سلسلة مستوطنات على طول الخط، لتعم الفائدة الاقتصادية من خلال السيطرة على قطاع نقل البضائع.

ويعتقد أن "خطوط السكك التي أنشئت في كافة الدول العربية كان هدفها الرئيسي خدمة مصالح الدولة الاستعمارية المسيطرة رغم ما كان يعلن حينها أنها أنشئت لصالح الشعوب، وكانت الفائدة الوحيدة التي تتحقق للسكان الأصليين هي تسهيل تنقلهم".

وبشأن استهداف الثوار الفلسطينيين بعملياتهم خط يافا القدس، يقول المؤرخ الفلسطيني إنه لم يكن هناك تمرد ضد مشروع القطار خلال الحكم العثماني رغم تعالي الأصوات التي نبهت من خطر الحركة الصهيونية ومشاريعها، خاصة أن مؤسس القطار يهودي من أصل فرنسي.

ويؤكد أن التحرك الفلسطيني ضد هذا الخط كان في فترة الانتداب البريطاني، خاصة في زمن ثورة عام 1936، حيث استهدف بعمليات نوعية تفجير قاطرات عبر زرع ألغام ناسفة والهجوم على بعضها، خاصة تلك التي تحتوي على ذخائر للقوات البريطانية، مما دفع بريطانيا لتخصيص القاطرة الأولى للفلسطينيين، وجعل قائدها منهم لثني الثوار عن تلغيم الخط.

توقف العمل في خط القدس يافا عام 1998، لإجراء بعض الإصلاحات فيه، وأعيد تشغيله عام 2005 دون أن يشمل المقطع الأصلي من الحي الألماني حتى بيت صفافا في القدس، وقامت بلدية القدس بتجهيز المقطع المعطل وتهيئته ليصبح مسارا للمشي والركض وركوب الدراجات الهوائية.

اليوم، يقصد المكان كثير من المقدسيين الذين يمارسون الرياضة ويستمتعون بالعمق التاريخي المتمثل بعشرات المنازل الفلسطينية القديمة المتناثرة على جانبي السكة الأثرية التي ما زالت قضبانها ثابتة في الأرض تشهد على تاريخ طويل من الاستغلال الاستعماري من جهة، وترصّد الثوار الفلسطينيين له من جهة أخرى.

وعن المنازل القديمة، يقول منصور إنها تعود للفلسطينيين وبعض الحكام الأتراك الذين كانوا يحكمون البلاد آنذاك، وتمت السيطرة على معظم هذه الأحياء والمنازل عام 1948 وتحويلها إلى ما يسمى في إسرائيل "حارس أملاك الغائبين".

جدير بالذكر أن أبرز مشروع سكة حديدية للدولة العثمانية في المنطقة، هو خط حديد الحجاز الذي عمل السلطان عبد الحميد الثاني، لتشييده، وهو ما وفّق لتحقيق جزء من مشروعه دون كامله.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!