ترك برس

تناول تقرير للكاتب والصحفي التركي أرسين تشيليك، التحول الجذري في صورة الإعلام العالمي منذ اندلاع الإبادة الجماعية في غزة، مسلطاً الضوء على انحياز المؤسسات الإعلامية الكبرى – مثل BBC وCNN ونيويورك تايمز – للرواية الإسرائيلية وتبنّيها خطاباً تبريرياً للعنف ضد المدنيين.

يوضح الكاتب في تقريره بصحيفة يني شفق كيف أدى هذا الانحياز إلى فقدان الإعلام الغربي لمصداقيته الأخلاقية والمهنية، وإلى تصاعد موجة غضب شعبي عالمي عبّرت عن نفسها في الشوارع وفي الفضاء الرقمي عبر حملات المقاطعة مثل “Blockout 2024”.

ويرصد محاولات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إنقاذ سرديته عبر المؤثرين على وسائل التواصل الاجتماعي، قبل أن تتحول هذه المنصات إلى ساحة مقاومة رقمية واسعة تقوّض الدعاية الصهيونية، وتعيد تشكيل وعيٍ عالمي جديد أكثر رفضاً للهيمنة الإعلامية وأقرب إلى الحقيقة الإنسانية.

وفيما يلي نص التقرير:

في الأيام الأولى من بدء الإبادة الجماعية في غزة، رأينا بوضوح كيف تحول الإعلام العالمي إلى آلة دعاية ضخمة تعمل على حماية إسرائيل واختلاق المبررات لذبح المدنيين.

لطالما كان بث "نشرة قوات الاحتلال" نهجًا راسخًا في بنية الإعلام العالمي. ويكفي أن نتذكّر كيف شكلت قناتا BBC البريطانية وCNN الأمريكية ما سُمّي بـ"تحالف المعلومات" عام 2003، لتمهيد الطريق أمام غزو العراق، مقدّمين تغطية إعلامية منحت الغزاة غطاءً أخلاقيًا وهميًا، وعززت قوة الجنود الذين دمروا المدن وقتلوا أكثر من مليون مدني.

إن المؤسسات الإعلامية المؤثرة التي فرضت على العالم مبادئ الحياد والموضوعية والإنسانية في العمل الصحفي ـ مثل نيويورك تايمز وواشنطن بوست وبيلد والغارديان ورويترز وأسوشيتد برس وBBC وCNN ودويتشه فيله ـ وقعت بعد السابع من أكتوبر في تناقض صارخ مع قيمها المعلنة، وانحازت بوضوح إلى صف الإبادة الجماعية.

التحول نتيجة فقدان المصداقية

إن السياسات الإعلامية التي صيغت لتوجيه الرأي العام العالمي لصالح إسرائيل أحدثت شرخًا لم يكن في الحسبان. فقد أثار هذا الدعم الأعمى موجة غضب عارمة يمكن وصفها بأنها "قيام الإنسانية برمتها بلفظ إسرائيل بكراهية شديدة" في الشوارع والرأي العام العالمي. كما تسبب عمل الإعلام كأداة للدعاية في انقسامات داخلية في بعض المؤسسات نفسها؛ إذ أُجبر صحفيون في مؤسسات مثل نيويورك تايمز على الاستقالة بعد احتجاجهم على جرائم إسرائيل.

ولم يقتصر فقدان المصداقية الجماعي على ردود الفعل الشعبية في الشوارع، بل انعكس أيضًا في استطلاعات الرأي والمشاهدات العامة. حتى إن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب صرّح قائلاً: "شعبي، والناخبون الذين صوتوا لي، يكرهون إسرائيل"، وهو تصريح سجّل رسميًا تحوّل هذه الكراهية الشعبية إلى موقف معلن. لقد تجاوزت المجتمعات الغربية في هذه المرحلة حدودًا كان يُعتقد أنه لا يمكن تجاوزها. فالمؤيدون للإبادة واجهوا ردود فعل ملموسة، مثل طردهم من الفنادق والمقاهي، وهو ما أجبر وسائل الإعلام العالمية، ومعها القوى السياسية التي تقف خلفها، على تبني موقف أكثر اعتدالاً.

مناورة نتنياهو "اليائسة"

إن تحوّل وسائل الإعلام العالمية ـ التي كانت قبل بضعة أشهر فقط تشرعن إبادة غزة ـ إلى نشر تقارير توثّق هذه الإبادة الآن، دفع إسرائيل إلى البحث عن مخرج جديد. وفي خضم هذا الانهيار، قام السفّاح بنيامين نتنياهو، خلال زيارته إلى نيويورك في شهر سبتمبر الماضي لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، بخطوة تعكس يأسه، من نقله لانهياره العسكري والدبلوماسي المتعدد الأبعاد إلى العالم الرقمي.

ففي قاعات الأمم المتحدة، واجه نتنياهو مشهدًا مهينًا حين غادر الدبلوماسيون القاعة أثناء خطابه، ليردّ على ذلك بمحاولة استعادة سمعته الدولية المتهاوية من خلال لقاء جمعه في القنصلية الإسرائيلية بنيويورك مع مجموعة من مشاهير “المؤثرين” الأمريكيين على وسائل التواصل الاجتماعي كـ ليزي سافيتسكي وإميلي أوستن. وخلال اللقاء، دعاهم نتنياهو صراحة إلى استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كسلاح، وحثّهم على “القتال من أجل إسرائيل”.

تصفية الأدوات الرقمية: حملة "بلوك آوت 2024"

كان هذا الاجتماع، الذي عُقد أمام أنظار العالم، في حقيقته اعترافاً بإفلاس آلة الدعاية الصهيونية. ولكن هذه الشخصيات الإعلامية الجديدة، التي أرادت إسرائيل أن تكلفها بمهمة "الأدوات السياسية" للنظام الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية، كانت قد بدأت بالفعل تتعرض "للتصفية". فالمستخدمون الواعون من جيل الشباب على وسائل التواصل صنّفوا هؤلاء المؤثرين على أنهم جزء من آلة الإبادة الجماعية، وأطلقوا حملة مقاطعة رقمية لمعاقبتهم، أطلقوا عليها اسم "Blockout 2024".

وتؤكد البيانات بوضوح صدق هذه "التصفية الرقمية": فقد خسرت هايلي كاليل نحو 100 ألف متابع، وكيم كارداشيان حوالي مليون، بينما فقدت سيلينا غوميز أكثر من مليون متابع، وجميعهن وُسمن بـ اللامبالاة تجاه مأساة غزة. أما أولئك الذين تعاونوا مباشرة مع نتنياهو، كـ ليزي سافيتسكي، فقد خسروا عشرات الآلاف من المتابعين، وتخلّت عنهم شركات الإدارة والتسويق التي كانت تتعامل معهم، بعدما رأت أنهم باتوا غير قابلين للتسويق بسبب نشرهم محتوى لدعم إسرائيل.

أصداء الهروب من الصهيونية

في ظل فقدان إسرائيل للدعم يوماً بعد يوم، سواء بين الشعوب الغربية أو في وسائل الإعلام العالمية أو حتى في المنظومة الرقمية، لم يتبقَّ أمامها سوى خيار واحد: بناء منظومة "اصطناعية" تبدو طبيعية. وللحفاظ على تفاعل أدواتها المأجورة المروجة لدعايتها، جُنِّدت جيوش من حسابات البوت تضم مئات الحسابات الوهمية. وقد أدى ذلك إلى تحويل منصات التواصل الاجتماعي إلى غرف صدى ضخمة معزولة عن الواقع، لا تعمل إلا لصالح إسرائيل، مما سرّع وتيرة هجرة جيل الشباب من هذه المنصات.

ورغم أنه قد يبدو من غير الممكن "هجر" منصات مثل "تيك توك" و"إنستغرام" بالكامل، فإن توجه المستخدمين الشباب خلال العام الماضي إلى “تلغرام” و“ديسكورد” يُظهر بوضوح بوادر هجرة رقمية جماعية.

لماذا انهارت الدعاية؟

إن الاستراتيجية الدعائية التي بدأ نتنياهو في تنفيذها عبر منصتي "إكس" (تويتر سابقاً) و"تيك توك" ستكون بمثابة حرب خاسرة ضد الجيل الشاب. فالموجة المتصاعدة من الكراهية ضد الصهيونية، التي أدركها حتى أحد منظّريها المعاصرين يوفال نوح هراري بينما فشلت إسرائيل في استيعابها، تراكمت قطرة قطرة منذ 7 أكتوبر 2023 ووصلت إلى نقطة الانفجار.

وتعتمد آلة الدعاية الصهيونية على مبدأين أساسيين: “إقناع الجماهير باتجاه واحد” و“تشويه الحقيقة عبر وسائل الإعلام الرئيسية”. غير أن الشباب الغربي بعد ثوانٍ من مشاهدة الأخبار المخففة عن "ادعاءات إسرائيلية" على قناتي CNN أو BBC التي تشاهدها عائلاتهم، فتحوا هواتفهم واصطدموا بصور ومقاطع من غزة غير مفلترة ولا خاضعة للرقابة ينشرها الصحفيان الغزيّان معتز عزايزة وصالح الجعفراوي. وهذا التناقض الحاد بين الروايتين لم يُسقط الدعاية نفسها فقط، بل أسقط مصداقية الإعلام الرئيسي الذي بث تلك الدعاية.

وفي هذا السياق، فإن المحتوى الذي تنتجه إسرائيل، كفيديوهات “الجنود الراقصين” أو المقاطع “المبهجة والمبالغ فيها”، يبدو سخيفاً ومبتذلاً حين ظهر إلى جانب صور الأطفال تحت الأنقاض. وهكذا تحولت الدعاية ذاتها إلى موضوعٍ للسخرية والاشمئزاز. أما بالنسبة لمستخدمي وسائل التواصل، فقد أصبح نظام التحقق من المصداقية لا يقوم على تصريحات المتحدثين الرسميين، بل على التعليقات أسفل المنشورات. فالذكاء الجمعي والتعليقات التي تشير إلى الحقيقة أسفل هذه المشاركات كانت كفيلة بخنق البوتات والحسابات الآلية والأصوات الرسمية في لحظتها.

المقاومة الرقمية ضد فرض الخوارزميات

ماذا سيحدث إذا سقط تطبيق "تيك توك" بالكامل تحت السيطرة الإسرائيلية؟ أي إذا تم حجب المحتوى الحقيقي القادم من غزة بشكل ممنهج، وفُرضت الدعاية الإسرائيلية عبر الخوارزميات؟

إذا بدأت عملية الحصار هذه - وهو أمر حتمي بالنسبة لإسرائيل - فأعتقد أن المقاومة يمكن أن تكون على مرحلتين:

1ـ المواجهة عبر الدويتو (Duet) والمزج الرقمي: يمكن للمستخدمين المتبقين على تيك توك مواجهة الفيديوهات الدعائية المفروضة عبر ميزة الدويتو، بإضافة مشاهد من الدمار في غزة خلفها، لإعادة صياغة المعنى بالكامل. ونفس الأمر يمكن تطبيقه على إنستغرام عبر ميزة الريمكس (Remix)، بحيث تتحول الدعاية نفسها إلى ناقل لنقيضها، أي الحقيقة الواقعية.

2ـ تفكيك المنظومة الرقمية: قد يختار الجمهور الأكبر مغادرة المنصة بالكامل. لقد أظهر مسار وسائل التواصل الاجتماعي منذ منتصف العقد الأول من الألفية أن المستخدمين، وخاصة الشباب لا يهتمون بالمنصة نفسها، بل بالمحتوى الممتع والمفيد والمجتمع الذي يخلقونه. فالفراغ الذي يتركه تيك توك الذي تم الاستيلاء عليه، لن تملأه فورًا منصة جديدة، لكن المنظومة الرقمية نفسها ستتفكك إلى حد كبير. وهناك وجهتان رئيسيتان لهذه الهجرة الرقمية: قنوات تلغرام لمشاركة المحتوى. ومجموعات ديسكورد وريدت المغلقة لمناقشة الفيديوهات والتعليق عليها.

حبس الصهيونية في غرفة منعزلة

إن الجدار الرقمي الذي يحاول نتنياهو بناءه بينما ينهار الإعلام العالمي مصيره التصدع والانهيار تحت وطأة هذا الضمير الجمعي. وفي نهاية المطاف، ستجد الصهيونية نفسها محاصرة في غرفة صدى ضخمة، لا تتحدث إلا مع جيوش البوت وأدواتها المأجورة. إن التحكم في هذه المنظومة الرقمية الجديدة، التي ستكون مُجزأة ولامركزية، سيصبح أكثر استحالة بكثير من التحكم في منصة واحدة. هذه المقاومة الرقمية الطبيعية والمدنية ضد إسرائيل لن تكتفي بإبطال مفعول الدعاية، بل ستترك صانعي الدعاية أنفسهم وحيدين تماماً في خضم الكراهية التي زرعوها. إن النصر الحتمي للسعي من أجل الكرامة والوجدان والبحث عن العدالة، الذي أعادت غزة غرسه في البشرية، يمكن أن يُكتسب من خلال هذه الانتفاضة.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!