د. عطية عدلان - الجزيرة مباشر

لماذا دولة جنوب إفريقيا ودول المخروط الأمريكي الجنوبي؟! لماذا لم تتخذ هذا الموقفَ دولةٌ واحدة من سبع وخمسين دولة عربية وإسلامية اجتمعت في الرياض لتصدر بيانًا مشتركًا تشجب فيه العدوان الإسرائيلي على غزة ثم تعود راشدة؟! لماذا لم تنضم إلى الدعوى التي قدمتها دولة جنوب إفريقيا كما فعلت كل من بوليفيا وتشيلي، ثم بلجيكا مؤخرا، لماذا توزعت كلها بين صامت صمت القبور ومكتفٍ من الدعم بالإشادة بالصقور؟! ثم ما الذي يمكن أن تحققه هذه الدعوى لغزة وللقضية الفلسطينية؟ هذه هي أخطر الأسئلة التي تستبد بالعقل العام في بلاد الإسلام، وتلحف في طلب الإجابة الشافية؟

“لست من الناحية القانونية ولا من الناحية الأخلاقية ملزمًا بطاعة قوانين صادرة عن هيئة تشريعية ليس فيها من يمثلني… إنّ العنف الذي تنتهجه الحكومة ضدنا لا يولد إلا العنف ضدها… لا يكفي المرء لكي يكون حرًّا مجرد التخلص من قيوده؛ حتى يحترم حريات الآخرين”؛ بهذه الكلمات افتتح “نيلسون مانديلا” دفاعه أمام المحكمة، وعلى هذه الكلمات بنى الزعيم المفاهيم التي يقوم عليها العقد الاجتماعي لدولة جنوب إفريقيا، تلك الدولة التي عانى شعبُها طويلا من التمييز والفصل العنصري، بعد أن تكبد الخسائر الفادحة جراء احتلال غربي واستيطان أوربيّ استمر قرونًا عديدة، مرّ فيها بمرحلة الاستيطان الهولنديّ في القرن السابع عشر، ثم الاحتلال الإنجليزيّ الأول عام 1795م، ثم الاحتلال الإنجليزي الثاني عام 1806م، ثم قيام الحكومة العنصرية بقيادة “دانيال فرانسوا مالان” بتولي حكم الجمهورية الجديدة عام 1948م، ولقد نجح “نيلسون مانديلا” الذي خاض مع “حزب المؤتمر الوطني” نضالا سياسيًّا، ثم مع الحزب ورابطة الشباب المنبثقة عنه عصيانًا مدنيًّا وإضرابًا شاملا، ثم انتهج العنف عبر “رمح الأمة”؛ نجح في بناء الدولة العادلة وفي تأسيس الأمة التواقة للحق والعدل الرافضة للظلم والعدوان.

فليس عجيبًا -إذَنْ- أن نرى دولة جنوب إفريقيا تبادر إلى موقف كهذا؛ إذْ إنّ ثورتها لم تسلمها إلى أنظمة جاءت عبر ثورات مضادة لا تمت إلى أحلام الثورة بأدنى صلة، وإنّما إلى نظام منسجم مع طموحات الشعب وأشواقه للحرية والعدل والإخاء، وقد أكد مانديلا على تطابق الأداء السياسي مع المبادئ السياسية بعدم تمسكه بالكرسيّ وعدم إيمانه بخلود المنصب، وقل مثل ذلك عن الدول التي تقطن المخروط الجنوبي الأمريكي، تلك التي ذاقت العذاب أشكالا وألوانًا على يد جهاز “السي آي إيه” (CIA) الذي أسرف في إحداث الانقلابات العسكرية في تشيلي والبرازيل والأرجنتين والسلفادور وغيرها من أجل التمكين للحكومات التابعة لسياسة الولايات المتحدة الأمريكية، والمحققة لأطماع الرأسمالية، التي كان يُنَظِّرُ لها مؤسس النيوليبرالية “ميلتون فريدمان” وتلاميذه في نادي شيكاغو الأثيم، ومن شاء أن يعرف طرفًا من الفظائع والجرائم السادية التي وقعت من العسكر بتدبير أمريكيّ فليقرأ للصحفي الأمريكي نعوم تشومسكي كتابه “ماذا يريد العم سام؟” وللبرلمانية الكندية نعومي كلاين كتابها “عقيدة الصدمة”؛ فلا عجب -إذن- أن تحتفظ هذه البلدان بقدر كبير من الحنق على العنصرية والبغي، ومن عدم الثقة في السياسة الأمريكية، وأن يدفعها ذلك إلى اتخاذ مواقف إنسانية لصالح العدالة ولصالح الإنسانية.

لن يفيدَها التذرع بالدفاع عن النفس، ولا التترس بوصف الإرهاب الذي تصر على إلصاقه بالمقاومة؛ لأنّ احتلالها للأرض الفلسطينية الذي دام من 67 إلى اليوم يحبط ذرائعها ويضعها في موضع لا تستطيع فيه نفي التهمة ولا الفرار من الإدانة؛ ولاسيما مع ما قدمه الفريق القانوني الجنوب إفريقي من وثائق تمثلت في صور وفيديوهات وتسجيلات موثقة؛ لذلك فإنّ المتوقع -بحسب ما أدلى به رونالد لامولا- أن تتخذ المحكمة قرارًا ضد إسرائيل، التي ارتكبت جرائم إبادة ضد الشعب الفلسطيني في غزة، منتهكة بذلك اتفاقية الإبادة الجماعية، وكذلك ميثاق الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، لكنْ هل سيمر هذا القرار بسلام؟ أم إنّه لدى تحويل القرار لمجلس الأمن ستُفَعِّلُ أمريكا -كالعادة- حق الفيتو ضد إنفاذ القرار؟

لا ندري ولا أحد يدري على وجه الدقة ما الذي يمكن أن يحدث بعد صدور قرار المحكمة، لكنّ الذي لا شك فيه ولا ارتياب أنّ هذه الخطوة التي أقدمت عليها جنوب إفريقيا وما سيترتب عليها تمثل دعمًا لغزة وللقضية الفلسطينية على وجه العموم؛ فسوف يرتقي التعاطي الأممي مع هذه القضية من مجرد التعاطف الشعبيّ العام والجارف إلى مستوى القطيعة العقديّة الحاسمة والمفاصلة الحضارية الصارمة، التي غالبًا ما تسهم الأحكام القضائية الكبيرة -وربما مجرد الدعاوى العادلة الشهيرة- في تكوينها وترسيخها، فالتعويل إنّما هو على الآثار السياسية والإعلامية والدعائية للحكم وللقضية المعروضة للحكم، لا على الآثار القانونية، فإن لم يكن ذلك كان ما هو أشد منه وقعًا، وهو مزيد من الافتضاح للمؤسسات الدولية بما فيها محكمة العدل الدولية، ومجلس الأمن الدوليّ؛ وهذا يقرب زمن انهيار المنظومة الدولية برمتها.

ليس -فقط- لما أصاب الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلاميّ من عقم، ولا لمجرد الانصياع للقرار الأمريكيّ الذي يقضي بعدم التدخل بذريعة منع توسع الحرب، ولا -حتى- لما تقتضيه معاهدات السلام والتطبيع التي لم تكتف بنسخ اتفاقيات الدفاع المشترك حتى نسخت ومسخت روابط الدم وأواصر الدين، وإنّما هناك عوامل أخرى استجدت وصارت أكثر فاعلية على الساحة الإقليمية من ذلك كلِّه على عِظَمِ خطره وضرره، يأتي على رأس هذه العوامل أنّ جميع الدول العربية والإسلامية قد أسلمها الوضع الاقتصادي الذي تردى في المنطقة كلها ترديًا استثنائيًّا لم يسبق له مثيل؛ أسلمها إلى قبضة نظامين في المنطقة عائمين فوق تلال الأموال، لهما مشروع متحالف مع المشروع الصهيونيّ بشكل كامل، ومن ثم فلو وُجِدَ من بين هذه الدول دولة تفكر في أخذ خطوة ولو شكلية؛ فإنّ الجزرة تصرفها والعصا تعرقل سيرها؛ فلا سبيل إذن إلا بأن تتجاوز الشعوب أنظمة تيبست وفقدت القدرة على الحركة، وإنّه لآت وكل آت قريب.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس