
ترك برس
سلّط تقرير على موقع "مركز الجزيرة للدراسات"، الضوء على الحفاوة البروتوكولية التي حظي بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، خلال لقائه نظيره الأمريكي دونالد ترامب في البيت الأبيض، قبل أيام.
وأفاد التقرير بأنه لقاء الرئيس التركي بنظيره الأميركي، على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، لم يكن لقاء عاديا. فقد حظي أردوغان في البيت الأبيض بحفاوة بروتوكولية بدت للبعض مبالغا فيها. فما الذي تخفيه هذه الحفاوة؟ وما الذي يملكه الرئيس التركي من أوراق قوة جعلته يحظى بكل هذا الاهتمام؟
وفيما يلي تتمة التقرير:
خلال اللقاء الذي جمع الرئيسين، ترامب وأردوغان، الخميس، 25 سبتمبر/أيلول 2025، على هامش اللقاء السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة، أظهر الرئيس الأميركي حفاوة غير معهودة بضيفه التركي. ما لفت الانتباه أن هذه الحفاوة، تجاوزت في بعض مظاهرها وفي حركات الرئيس ترامب وتعليقاته، ما كان يبديه تجاه ضيوفه السابقين، بمن في ذلك حلفاؤه وأصدقاؤه المقربون. بالتأكيد، ثمة فيما اتفق عليه الرئيسان خلال اللقاء ما يدفع لترطيب الأجواء بينهما، مثل توقيع صفقات تسلّح، ورفع قيمة الاستثمارات المتبادلة، والتوصّل إلى توافقات بشأن خطة ترامب لإنهاء الحرب على غزة. ولكن ذلك لا يكفي، فكثير من الزعماء فعلوا أكثر من ذلك بكثير.
فما الذي جعل أردوغان يحظى بكل هذه الحفاوة في البيت الأبيض إذن، رغم أن خطابه الذي ألقاه أمام الجمعية العامة، قبيل لقائه بترامب، لم يكن وديًّا تمامًا إزاء الولايات المتحدة، فقد وصف حليفتها إسرائيل بالدولة المارقة، التي ترتكب الإبادة الجماعية في غزة، ووصف حماس بالمقاومة الوطنية، نافيًا عنها صفة الإرهاب خلافًا لتوصيف الإدارة الأميركية؟ على مستوى الخطاب، وحول الموضوع الفلسطيني تحديدًا، كانت كلمتا الرئيسين، ترامب وأردوغان، متعارضتين تمامًا، فما الذي يفسِّر التطابق فيما عدا ذلك، بما جعل لقاءهما لاحقًا في غاية الودية والتفاهم؟ ما الذي يخفيه هذا الاحتفاء البروتوكولي من أوراق تملكها تركيا على الصعيد الجيوسياسي وتحتاج إليها الولايات المتحدة في إستراتيجيتها الكبرى؟
تركيا القوة "الضرورية" في الاتجاهات الأربعة
في الجغرافيا السياسية، مواقع الدول ليست محايدة. فالجغرافيا تكتسي من الأهمية بقدر ما تملك السياسة من وعي ورؤية وإرادة لتفعيل تلك الأهمية وتثميرها. وقد تشكَّل وعي القيادة التركية الحالية بأهمية جغرافية تركيا في وقت مبكر، وبلوره وزير خارجيتها ورئيس وزرائها الأسبق، أحمد داود أوغلو، في كتابه "العمق الإستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية". والمتتبع لسياسة تركيا الخارجية خلال العقدين الأخيرين، لا يخطئ السعي الحثيث لأردوغان وفريقه القيادي لتحويل الوعي بأهمية الجغرافية التركية إلى قوة إقليمية لا يمكن تجاوزها في أية حسابات تخص منطقة الشرق الأوسط.
لم تكن حسابات ترامب وإدارته إزاء الحرب الإسرائيلية على غزة، والحرب الروسية على أوكرانيا، وحربه التجارية الخاصة، دقيقة جدًّا، فقد داخلها الكثير من الارتباك والتردد والفشل. لكن علاقته مع تركيا، على وجه التحديد، لا يبدو أنها تسير على نفس النهج، فهي تُدار بدقة عالية لأن حساباتها لا ينبغي أن تخطئ. فالجغرافيا السياسية لهذا البلد الأوراسي المفصلي تحتل موقعا مركزيا في الاستراتيجية الأميركية، لما تلعبه من أدوار مهمّة في أربعة اتجاهات.
اتجاه الجنوب: فتركيا، باعتراف ترامب، لعبت دورًا محوريًّا في إسقاط نظام الأسد في سوريا، وحضورها في إعادة بناء هذه الدولة مؤثر ويشمل عدة مجالات، أبرزها الأمن والاقتصاد والطاقة وإعادة الإعمار. ولا تخفى أهمية سوريا في توازنات الشرق الأوسط حربًا وسلمًا، ولا يزال الاحتلال الإسرائيلي لمرتفعات الجولان سببًا في توترات إقليمية مستمرة. وستزداد أهمية سوريا الإستراتيجية إذا تحقق مشروع أنابيب الغاز الطبيعي بين قطر وتركيا عبر السعودية والأردن والأراضي السورية. ولا تقل العلاقات التركية-العراقية أهمية، فتركيا تلعب دورًا متزايدًا في تحويل العراق إلى حلقة ربط أساسية بين منطقة الخليج وأوروبا عبر مشروع طريق التنمية. تشترك في هذا المشروع دول الخليج إلى جانب العراق وسوريا وتركيا وإيران والاتحاد الأوروبي، ويتوقع أن يوفر، مع خط أنابيب الغاز القطري-السوري، بديلًا لأوروبا يغنيها عن الطاقة الروسية ويساعدها على الاستجابة للضغوط الأميركية في هذا المجال.
اتجاه الشمال: تملك تركيا علاقات مميزة بطرفي الحرب الروسية-الأوكرانية، وقد تمكنت في العام 2022 من عقد صفقة بين روسيا وأوكرانيا أمَّنت من خلالها تدفق الحبوب الأوكرانية بعد أن كادت الحرب تتسبب في أزمة غذاء عالمية. وفي العام 2025، استضافت تركيا محادثات روسية-أوكرانية في إطار مبادرة دبلوماسية لوقف الحرب. ليست علاقات أردوغان الشخصية الجيدة والمتوازنة مع بوتين وزيلينسكي هي فقط ما يمكِّن تركيا من لعب مثل هذه الأدوار في صراع إقليمي يهدد أمن أوروبا بكاملها. فموقع تركيا الجيوسياسي، المطل على البحر الأسود، حيث تجري بعض معارك الحرب الدائرة، وحيث يتموقع أحد الأساطيل الروسية، هو ما يجعل منها لاعبًا أساسيًّا في هذه المنطقة المتوترة.
جدير بالذكر، في هذا السياق، أن تركيا هي الدولة الوحيدة، من بين كل الدول المشاطئة، التي تملك حق إدارة حركة الملاحة في البحر الأسود. وقد منحت اتفاقية مونترو هذا الامتياز للأتراك ومكَّنتهم من أداة قانونية فعَّالة لتقييد وصول السفن الحربية إلى البحر الأسود. فكما تحظر الاتفاقية على الأساطيل الأوروبية والأميركية دخول البحر الأسود، فهي تمنع أيضًا أساطيل روسيا الأخرى في المحيط الهادئ وبحر البلطيق والشمال من دخول البحر الأسود. وهذا الوضع الجيوسياسي يمنح تركيا قوة فريدة يمكن لحلفائها في الناتو استخدامها للحد من قدرة روسيا على توسيع نفوذها وزيادة قوتها البحرية في المنطقة.
اتجاه الشرق: تربط تركيا بدول جنوب القوقاز وبمنطقة آسيا الوسطى علاقات متميزة. فقد كان دورها في تسوية الصراع بين أذربيجان وأرمينيا حاسمًا، وسيمنحها ممر "زنغزور"، الذي ستشرف الولايات المتحدة على إدارته، ميزات اقتصادية وإستراتيجية مضافة. ومقابل الانكفاء الروسي والتبرم الإيراني والتقدم الأميركي في هذه المنطقة، سيتعزز موقع تركيا بوصفها حلقة الوصل البرية الرئيسية بين الشرق والغرب. وهذا الممر سيكون بوابة للتجارة العالمية ولإمدادات الطاقة، وسيربط تركيا مجددًا، عبر البر، بعمقها الإستراتيجي وسط آسيا.
تتجاوز علاقات تركيا بآسيا الوسطى روابط الجغرافيا إلى اللغة والثقافة والتاريخ المشترك وتشابك المصالح الاقتصادية. وقد أنشأت دول هذه المنطقة إطارًا إقليميًّا يجمعها باسم "منظمة الدول التركية" يضم، إلى جانب تركيا، كلًّا من أذربيجان، وأوزبكستان، وكازاخستان، وقرغيزستان. ولا تخفى أهمية هذا الفضاء الجيوسياسي، الذي يمتد شرقًا إلى حدود الصين، ويتمتع ثلاث من دوله بعضوية كاملة في منظمة شنغهاي للتعاون. هنا أيضًا، تحتل تركيا موقعًا مركزيًّا على صعيد العلاقات الأوروبية-الآسيوية في اتجاه الشرق.
اتجاه الغرب: لا تقل أهمية الامتداد التركي غربًا عن أهميتها في باقي الاتجاهات. فهي ركن أساسي من أركان الأمن والدفاع الأوروبيين بحكم عضويتها "الثقيلة" في حلف شمال الأطلسي (ناتو). فقد انضمت إلى هذا الحلف منذ عام 1952، في أول توسّع له بعد ثلاث سنوات على تأسيسه. وتحتفظ الولايات المتحدة بقواعد قواعد عسكرية مهمة في تركيا، تُستخدم لأغراض متعددة، منها الحرب على "الإرهاب" ومنها الخدمات اللوجستية والاستخباراتية لتسهيل عمليات القوات الأميركية في المنطقة. ويُعد الاقتصاد التركي القوي والمتنوع إحدى أوراق القوة التي تملكها أنقرة في علاقاتها الغربية، خاصة بعدما تحولت إلى حلقة أساسية في سلسلة التوريد العالمية. يشمل ذلك المبادلات التجارية وشبكات النقل البري والبحري والجوي، إلى جانب أنابيب النفط والغاز من الشرق الأوسط وآسيا الوسطى إلى أوروبا.
تملك تركيا كذلك، ورقة اللاجئين والمهاجرين، التي تشكّل هاجسًا للكثير من دول الاتحاد الأوروبي. وقد مكَّنها موقعها الجغرافي في الشرق الأوسط وعلى ضفاف البحر المتوسط والبحر الأسود وبحري مرمرة وإيجة من لعب دور محوري في حركة الهجرة المتجهة شمالًا وغربًا. لذلك، تعد تركيا شريكًا "ضروريًّا" لأوروبا، ولكنها في الوقت ذاته، تتمتع بورقة ضغط عليها ومساومة معها في غاية الأهمية.
هذا الموقع الجيوسياسي الحيوي لتركيا، هو الذي جعلها تلعب أدوارًا فاعلة في السياسات الإقليمية والدولية، وجعل منها قوة "ضرورية" لحلفائها الغربيين ولحليفها الأميركي تحديدًا، في الاتجاهات الأربعة. فحيث نظر ترامب، وجد تركيا. وجدها جنوبًا في قلب تعقيدات الشرق الأوسط، ووجدها شمالًا على تخوم نزاع مع روسيا قد يتحول إلى حرب عالمية، ووجدها شرقًا يمتد نفوذها إلى الحدود الصينية، ووجدها غربًا تشكل قوة صلبة وناعمة لا غنى عنها لأمن حلفائه الأوروبيين. لا غرابة إذن أن تكون حسابات الإدارة الأميركية تجاه تركيا دقيقة جدًّا، وأن يحظى الرئيس أردوغان بحفاوة لم يحظ بها غيره من الرؤساء في بروتوكول البيت الأبيض. يبقى السؤال بعد ذلك: متى تتغير هذه الحسابات؟ ومتى تتحول هذه القوة "الضرورية" إلى تهديد، في عالم تقوم فيه السياسة الدولية، على حدِّ تعبير ونستون تشرشل، على قاعدة "لا صداقة دائمة ولا عداوة دائمة، بل مصلحة دائمة"؟
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!