
ترك برس
استعرض مقال للكاتب والإعلامي التركي طه قلينتش، تحوّلات الذاكرة التاريخية في المشرق من أواخر العهد العثماني حتى الحاضر السوري، من خلال تتبّع خيطٍ يمتدّ من بيع عائلة سرسق اللبنانية للأراضي الفلسطينية للصهاينة في القرن التاسع عشر، إلى إعدام المناضل العربي شكري العسلي في ساحة المرجة عام 1916، وصولًا إلى تلاشي رمزية “ساحة الشهداء” في الوعي السوري الحديث.
ويكشف الكاتب كيف تداخلت المصالح السياسية والدينية في تلك المرحلة لتسريع فقدان العرب لأراضيهم، ثم كيف تحوّلت الذاكرة المشتركة إلى مادة سياسية قابلة لإعادة التوظيف تبعًا للعلاقات الإقليمية، خصوصًا بين سوريا وتركيا. كما يطرح دعوة لإعادة كتابة التاريخ والمناهج بروح نقدية جديدة تضع الشخصيات والأحداث في سياقها الصحيح، بعيدًا عن الاستخدام الأيديولوجي للذاكرة. ويتطرق إلى قرار إلغاء عطلة عيد الشهداء في سوريا.
وفيما يلي نص المقال:
في أواخر العهد العثماني، قامت عائلة سرسق المسيحية الأرثوذكسية المقيمة في لبنان بشراء مساحات شاسعة من الأراضي في شمال فلسطين. وقد اشتهرت العائلة بثرائها الفاحش، حتى لقبت بـ "آل روتشيلد الشرق". وفي ثمانينيات القرن التاسع عشر، بدأت العائلة في بيع هذه الأراضي للصهاينة. وبذلك تغيّرت ملكية مئات القرى التي تضم عشرات الآلاف من السكان في منطقة حيفا الحالية وما حولها. وقد بيعت القرى بما فيها من مزارعين وعمال فلسطينيين يعملون فيها بنظام "المرابحة". ورغم محاولات السلطان عبد الحميد الثاني منع هذا التبادل التجاري بين المسيحيين الأرثوذكس واليهود الصهاينة، بناءً على التقارير الميدانية التي وصلته، إلا أن العملية لم تتوقف بسبب ضعف الدولة المتزايد والصعوبات العملية في السيطرة على فلسطين من إسطنبول.
وبعد عزل السلطان عام 1909، توطد التحالف المسيحي اليهودي في إطار نقل الأراضي خلال فترة حكم "الاتحاد والترقي". وفي المقابل، حاول الحكام المحليون العرب في ذلك الوقت بإمكانياتهم الخاصة عرقلة استيلاء الصهاينة على الأراضي. ففي عام 1911، عندما باعت عائلة سرسق أرضاً واسعة للصهاينة، وهي الأرض التي تقع عليها مدينة العفولة الإسرائيلية اليوم، رفض قائم مقام الناصرة شكري العسلي منح الموافقة الرسمية والنهائية اللازمة لإتمام البيع. ولكن بسبب الظروف السياسية السائدة آنذاك، تم نقل الملكية رغم رفضه.
وُلد شكري العسلي في دمشق عام 1868، لعائلة غنية وذات جذور عريقة. وسار على خطى أبيه وجدّه اللذين شغلا مناصب عليا في البيروقراطية العثمانية في سوريا (بما في ذلك لبنان آنذاك). أكمل العسلي دراسته في القانون في إسطنبول، ولهذا كان يتحدث التركية بطلاقة. وبعد أحداث الناصرة، استقال من منصب القائم مقام وانتُخب عضواً في مجلس المبعوثان (البرلمان العثماني).
وطوال فترة ولايته التي استمرت نحو عامين، تبنى العسلي موقفاً ناقداً لسياسات "الاتحاد والترقي" تجاه المنطقة العربية، إلا أنه لم يكن لديه أي شكوى بشأن العيش كعربي تحت كنف الدولة العثمانية. وقد اتهم العسلي الإدارة العثمانية القائمة آنذاك بـ عدم اتخاذ خطوات حاسمة في مواجهة التوسع اليهودي الصهيوني المتنامي في الأراضي الفلسطينية.
وعندما اندلعت الحرب العالمية الأولى، كان شكري العسلي أحد الذين استهدفهم غضب جمال باشا تجاه القومية العربية. ورغم عدم وجود أي دليل ضده، أصدرت المحكمة العسكرية المُشكَّلة على عجل حكمها بإعدام العسلي بتهمة "التواصل مع الفرنسيين" و"الارتباط بتنظيمات عربية". ورغم المطالبات الملحة بالعفو عنه من قِبَل أنور باشا والمفكر العربي المؤثر في ذلك الوقت الأمير شكيب أرسلان، فقد أُعدم شكري العسلي ومجموعة من القوميين العرب شنقاً في ساحة المرجة وسط دمشق في 6 مايو 1916.
ومنذ فترة الانتداب الفرنسي عُرفت ساحة المرجة باسم "ساحة الشهداء". وفي السنوات التالية شهدت الساحة تنفيذ حكم الإعدام بحق ثلاثة أسماء أخرى من خلفيات مختلفة:
فخري الحسن الخراط، الابن الشاب لحسن الخراط، الذي كان قد قاد ثورة شعبية واسعة ضد الفرنسيين قبل عام واحد، وتم إعدامه في أوائل عام 1926.
سلمان المرشد، من أصول علوية، الذي أثار اضطرابات بادعاء النبوة الكاذبة، وتم إعدامه في 16 ديسمبر 1946.
إيلي كوهين، الجاسوس اليهودي الذي ضُبط متلبساً بالتجسس لصالح إسرائيل، وشُنق هنا في 18 مايو 1965.
وعندما زرت سوريا لأول مرة عام 2001، لم يعد يُطلق على ساحة المرجة "ساحة الشهداء". فرغم ذكر الاسم في الوثائق الرسمية، كان قد محي من ذاكرة الشعب ولغته. وعندما وصلت العلاقات السورية التركية إلى ذروتها لاحقًا، أُلغيت فعاليات إحياء ذكرى "يوم شهداء 6 مايو"؛ ثم أعيد تداول ذكرى "جمال باشا السفاح" وأعماله عندما ساءت العلاقات فيما بعد.
وعندما قرأتُ قبل بضعة أيام خبر إلغاء يوم 6 مايو كعطلة رسمية بموجب مرسوم وقعه الرئيس السوري أحمد الشرع، تذكّرتُ قصة ساحة المرجة. إن إخراج الساحة والذكريات التي تثيرها من كونها مادة سياسية تُستغل في اتجاهات مختلفة بين الحين والآخر، هو تطور إيجابي للغاية. لا شك أن القوميين العرب يستشيطون غضباً من هذا القرار. بل وهناك العديد من المنشورات التحريضية التي تتهم الإدارة السورية الجديدة بأنها "تابعة" لتركيا. وبغض النظر عما يقال، فإن إزالة ترسبات الماضي، واحدة تلو الأخرى، تعد مؤشراً إيجابياً.
والخطوة التالية ستكون إعادة كتابة المناهج الدراسية وكتب التاريخ في سوريا بشكل مشترك، مع وضع كل شخصية تاريخية في موضعها الصحيح. لا شك أنه عمل صعب، لكنه ليس مستحيلاً.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!