
د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا
هل يمكن أن تتحوّل "خطة غزة" إلى مدخل لإعادة صياغة العلاقة التركية – الإسرائيلية في المشهد السوري، وخصوصًا ملف "قسد" الذي لا يزال يشكّل عقدة أمنية – سياسية لتركيا؟ وهل تدفع مشاركة تركيا في طاولة شرم الشيخ – إلى جانب إسرائيل – واشنطن نحو "مقايضة استراتيجية"، تعطي أنقرة ما تريده على حدودها الجنوبية، مقابل دور تركي فاعل في الملف الفلسطيني تريده واشنطن وقد تقبل به تل أبيب؟
توحي مواقف الإدارة الأميركية في الأيام الأخيرة بأن الرئيس ترمب مستعد للعب دور المنسّق بين أنقرة وتل أبيب، بعد انخراط تركيا في دعم "خطة غزة الطموحة". فمن غير المرجّح أن يشيد الأميركيون بدور الرئيس التركي رجب طيب أردوغان من دون مقابل سياسي ملموس، بل يبدو أنهم يدفعون نحو صياغة مشهد إقليمي جديد تتقاطع فيه خطوط غزة مع شرق الفرات، وربما مع المشهد السوري ككل.
تتحرك أنقرة بنشاط واضح في دعم الحراك الأميركي المرتبط بغزة، مستفيدة من تنسيقها المباشر مع المبعوث الخاص ستيف ويتكوف في تهيئة مناخ التهدئة والضغط على حماس لقبول المسار الجديد. في المقابل، تُبدي انزعاجها من تحركات المبعوث الأميركي الآخر، توم باراك، على خط الحسكة – دمشق، برفقة شخصيات عسكرية واستخباراتية، وهو ما تعتبره أنقرة تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي، وتقويضًا لتفاهمات سابقة لم تُنفذ، لا سيما تلك التي تم التوصل إليها في العاشر من آذار بين دمشق و"قسد".
يحاول باراك طمأنة أنقرة بأن تحركاته تهدف إلى تعزيز الاستقرار ومكافحة الإرهاب، بما يخدم المصالح الأمنية التركية. إلا أن أنقرة لا تبدو مقتنعة، وترى في الانفتاح الأميركي على "قسد" ودمشق، من دون تنسيق مسبق معها، تناقضًا صارخًا مع ما يُطلب منها في غزة، حيث تُلعب أوراق حساسة ضمن توافقات إقليمية ودولية معقّدة.
تربط أنقرة بين مرونتها في غزة، بطلب أميركي، وبين حاجتها إلى تحرك أميركي مماثل في سوريا. فإذا كانت قد أسهمت في الضغط على حماس لقبول "خطة غزة"، فإنها تتوقع من واشنطن ممارسة ضغط مماثل على "قسد" لقبول الطرح التركي القائم على إعادة دمجها في الدولة السورية الجديدة.
تصريحات الرئيس أردوغان، ووزير خارجيته هاكان فيدان، تتقاطع مع موقف شريكهم في تحالف الجمهور، دولت بهشلي، الذي دعا عبد الله أوجلان من سجنه إلى توجيه رسالة لـ"قسد"، تذكّرها بخطورة تجاهل تعهدات آذار. فإما أن تلتزم "قسد" بالتفاهمات، أو تتحمل تبعات خرقها سياسيًا وعسكريًا. في الداخل التركي، يرى كثيرون أن الجمود في تنفيذ اتفاقية آذار ليس مجرد مراوغة سياسية، بل تعطيل متعمد يجري بدعم ضمني من دوائر أميركية، وعلى رأسها المبعوث باراك.
في هذا السياق، تتبلور معادلة جديدة: إذا كان مطلوبًا من تركيا أن تُلين موقف حماس، فمن حقها أن تطلب من واشنطن أن تغيّر موقفها من "قسد"، وتضغط على قيادتها للعودة إلى مسار التسوية وفق تفاهمات آذار الأخيرة.
ترفض قيادات "قسد"، التدخل التركي في شأن سوري – سوري، لكنها تتحدث عن الرعاية الأميركية للحوار بينها وبين دمشق. أنقرة ليست طرفا في المفاوضات وما يجري لا يعنيها كما ترى هي، لكن من حق واشنطن وجنرالاتها التنقل على خط القامشلي – الحسكة – دمشق للدفاع عن مصالح " قسد " ومنحها ما تريد كطرف معني!
للمرة الأولى منذ سنوات، جلس رئيس جهاز الاستخبارات التركي إبراهيم كالن إلى جانب رون ديرمر، رئيس الوفد الإسرائيلي المفاوض، في مشهد يعكس إعادة تموضع مدروس من الطرفين، أملته الضرورات السياسية لا الانسجام الكامل.
في المقابل، إسرائيل نفسها لم تعد تتحرك بمنأى عن هذه التغيرات . تراقب عن كثب التقارب التركي – العربي – الأميركي على خط غزة . وتدرك أن عزل أنقرة عن ملفات الإقليم لم يعد ممكنًا . وتتقبل أن أي مسار لغزة لا يمكن أن يستقر من دون توازنات جديدة تعني أكثر من لاعب محلي وإقليمي.
من هذا المنطلق ، يبدو مشهد شرم الشيخ أشبه ببروفة سياسية – إقليمية لما قد يتبلور لاحقًا. فالموضوع لا يقتصر على ترتيبات غزة، بل يتعداها نحو رسم ملامح تسويات أوسع : البداية في غزة وبعدها في الملف الفلسطيني ككل ، وقد تمتد إلى شرق الفرات، أو الجنوب السوري، أو حتى إلى ملفات إقليمية دائمة السخونة.
أنقرة، التي خاضت جولات توتر طويلة مع تل أبيب، تدرك أن وجودها في ترتيبات "غزة الجديدة" – سواء عبر ملف الإعمار أو الشق الأمني – لا يمكن أن يتم من دون تنسيق مع إسرائيل. لكنها في الوقت نفسه، ترفض أن يُفهم دورها كغطاء لإقصاء حماس أو لإعادة هيكلة المشهد الفلسطيني بما لا ينسجم مع رؤيتها. من هنا، ترى أن مقابل "المرونة" في غزة، يجب أن تحظى بمكاسب سياسية وأمنية ملموسة، خصوصًا في ملف "قسد" والدور الإسرائيلي في سوريا.
إعادة التواصل التركي – الإسرائيلي، ولو عبر إدارة أزمات مرحلية، قد تفتح الباب أمام مراجعة إسرائيلية محدودة لسياستها في سوريا، إذا تم توظيف تقاطعات غزة بشكل مناسب. كما أن إسرائيل نفسها تخضع الآن لإعادة تقييم استراتيجي، في ضوء التقارب التركي – العربي – الغربي في مسار خطة غزة، ومعرفة أن عزل أنقرة إقليميًا لم يعد واقعيًا، وأن واشنطن لن تستثمر في مسارات غزة من دون تأمين موافقة تركية – إسرائيلية مشتركة.
من هنا، فإن مشهد شرم الشيخ ليس مجرد لقاء طارئ، بل بروفة مصغّرة لمسار إقليمي أكبر تُستخدم فيه غزة بوابةً، لكن العيون تتجه فعليًا إلى ملفات أخرى، يتقدمها الملف السوري.
تراهن "قسد" على عامل الوقت، وعلى أن تغيّر واشنطن موازين القوى في سوريا لصالح مشروعها في شرق الفرات، لكنها تتجاهل واقعًا جديدًا يتمثل في أن تركيا أصبحت لاعبًا رئيسيًا أمام طاولة غزة، حيث يجلس الأميركي والإسرائيلي.
تبدو "خطة غزة" مدخلًا إقليميًا لإعادة رسم الحسابات التركية – الإسرائيلية، مع تأثير مباشر على المشهد السوري، وتحديدًا في ملف "قسد" وشرق الفرات. فهل تتخلى تل أبيب عن بعض من سياستها السورية، إذا ضمنت دورًا تركيًا فاعلًا في غزة؟ تجربة التقاطعات التركية – الإسرائيلية السابقة تُظهر أن المصالح الآنية لا تضمن توافقًا طويل الأمد، ما لم تُدعّم أميركيًا بأطر تنفيذية واضحة.
هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!
مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس