صهيب الفلاحي - هافينغتون بوست

أن نتحدث عن قيمة إنسانية أصيلة جاء بها ديننا الحنيف شيء، وأن لا نرى هذه القيمة مطبقة في واقعنا.. شيء آخر.

التعايش مع الجميع وفق الشرع والقوانين والأعراف هو مطلب إنساني وشرعي لتستمر الحياة وتعمر الأرض، وهو قيمة لا ينكرها إلا المتطرفون، الذين لا يعرفون العيش إلا بسحق الآخر.

وبالنظر إلى واقعنا المليء باللون الأحمر- وفي كثير من البلدان- فقد أصبحت هذه القيمة لا "قيمة" لها، والسبب في ذلك تسلط المجرمين على رقاب الناس، وتغذيتهم للمفاهيم الطائفية والقومية والمذهبية.. حتى أصبح اسم الشخص جريمة ولقبه جريمة، بل ومكان سكنه جريمة.

أذكر كيف غير الكثير من الشباب في العراق أسماءهم من "عمر" إلى "عمار" وفي هويات مزورة، وجرى ذلك على تغيير اللقب ومكان السكن، لأن ذلك كله يشير إلى الانتماء بصورة مباشرة.

بل حمل بعضهم هويتين كل واحدة منهما تشير بياناتها إلى طائفة معينة، حتى يستطيع صاحب الهوية أن يجتاز المناطق التي يريدها بأمان، والتي يسيطر عليها هذا الطرف أو ذاك.

الاصطفاف.. قيمة للبقاء 

في ظل واقع يملأه رفض الآخر انتقلنا من قيمة "التعايش" إلى قيمة "الاصطفاف" ، وأصبح للاصطفاف عندنا قيمة كبيرة لأنه ببساطة يحفظ لنا ديننا وأنفسنا وأموالنا، ويبعدنا عن الآخر الذي يتقرب إلى "ربه" بدمائنا.

ربما هذه طبيعة كل المخلوقات وليس البشر عنها بشواذ، فعندما تتعرض مجموعة من الحيوانات إلى خطر ما فإنها تحرص على تكتل يحميها من الخطر أولاً، ويحافظ على نوعها من الانقراض أو التشرذم. وللنحل نظام اجتماعي متماسك يذهل من يدرسه ويدقق النظر في تماسكه واصطفافه.

وهنا يأتي انحياز الإنسان إلى أهله وقومه وبلده خاصة إذا تعرضت إحدى قيمه لإهانة أو جرح عميق.

وهذا ما نجده ظاهراً بوضوح في قاعدة المجتمعات التي تتغذى أو تشحن طائفياً أو قومياً أو مذهبياً، أو يمارس عليها ضغط يخرجها من إطارها العام لتتجمع محافظة على قيمها الخاصة.

قرارنا وقرارهم في الاختلاف والتنوع 

خلق الله الشعوب أمما وقبائل مختلفة، وظهر هذا الاختلاف بوضوح في الدين والطائفة والقومية والألوان وغيرها، ومن يبحث عن هذا الاختلاف في الدول والمجتمعات ويريد أن يلعب على وترها فسيجد لذلك طريقاً ومسلكاً.

نحن في الشرق الأوسط نمتلك هذا التنوع بكثرة: مسلم- مسيحي، سني- شيعي، عربي- كردي.. إلخ، ثم عدد تحت هذه المسميات عشرات التنوعات، حتى تصل في التنوع أحيانا إلى البيت الذي يضم العائلة الواحدة.

في دول الغرب- لأنهم ببساطة خلق الله- يوجد هذا التنوع أيضا، ففيهم المسيحي والملحد، أبناء البلد والمجنسون، الأبيض والأسود.. إلخ، وتحت هذه التصنيفات أنواع التنوعات.

استطاع من يجيد التخطيط الجيد أن يلعب على تنوعنا ليصل بنا إلى "الاختلاف" وأن يكون هذا التنوع أحد أسباب شقائنا وتخلفنا وقتلنا، وكانت ذلك بيد حكومات غبية تجيد ملء الجيوب وإنهاك شعوبها.

بينما أصبح هذا التنوع "غنى" في الفكر والحياة لشعوب الغرب التي قررت أن تستوعب هذا التنوع وتستفيد منه.

لسنا هنا نتحدث عن نظرية المؤامرة أو نجعلها شماعة نعلق عليها هذا التشرذم، فبالتأكيد لو قررنا أن نتعايش فلن يكون للآخر الذي يريد بنا ما يريد أن يحقق مراده.

التعايش قرار سياسي أولاً 

وكما تحدثنا عن مثال لرفض الآخر في العراق، فيمكن لنا أن نرى صورة إيجابية لاستيعاب الآخر ومحاولة تقديم خطوة بالاتجاه الصحيح.

لقد أدركت تركيا التنوع الذي تعيش به، فحاولت وبكل ما تملك من قوة أن تعيده لمكانه في "الغنى" وليس "الاختلاف" من خلال عملية السلام التي أطلقتها.

فبعد أن كان الإسلام والقومية الكردية خطين أحمرين في السياسة التركية بعد سقوط الخلافة العثمانية عام 1923، واستمر هذا الحال لعشرات السنوات عاش فيه الشعب التركي معاناة لمن يريد أن يمارس حرية العبادة أو المعتقد أو الفكرة أو اللغة، ولا يسمح إلا للون واحد أن يهيمن ليس على الدولة وقراراتها وقوانينها فحسب وإنما على مزاج الناس وطريقة تفكيرهم وحتى امتد إلى أذواقهم وما يرغبون.

بعد هذه المدة من المعاناة استطاعت الحكومة التي حكمت البلاد 12 عاماً أن تقر حزمة إصلاحات قضت بموجبها على كل أشكال التمييز والتعنيف غير المبرر التي مورست سابقاً.

وهنا نستطيع أن نؤكد جازمين أن قرار الإصلاح والتغيير والتعايش واستثمار التنوع إنما هو قرار سياسي أولا وبامتياز ، فإذا أقر النظام السياسي في البلد قيمة "التعايش" فستتلاشى وتذوب الاختلافات التي تمزق الوطن.

وهذا أيضاً ما يُظهر كذب وادعاء الكثير من الدول والسياسيين في دولنا العربية الذين يعقدون مؤتمرات المصالحة الوطنية لذر الرماد في العيون ولإثبات أو تثبيت شرعية "التعايش" والتعدد والتنوع، في حين أن الأمر لا يعدو كونه ضحكاً على الذقون، وتمزيقاً للوطن تحت مسمى أجوف.

عن الكاتب

صهيب الفلاحي

رئيس تحرير موقع تركيا بوست


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس