د.أحمد البرعي - خاص ترك برس

كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان هو أول من أشهر شارة رابعة مخلداً ذكرى جريمة العصر بحق شبابٍ وشيوخٍ، نساءٍ وأطفالٍ كانوا آمنين مصلين قائمين راكعين ساجدين، لم يقترفوا إثماً ولمن يكن لهم ذنباً سوى أنهم أبوا أن ينحنوا أمام أحذية العسكر المصري الخائن. لا يكاد الطيب أردوغان يفوّت مناسبة إلا ويرفع فيها شارة رابعة، ويكرر دائماً رابعتنا تعني (أمة واحدة، علم واحد، وطن واحد، دولة واحدة).

أمة واحدة تجتمع بأتراكها وأكرادها، بعربها وشركسها، بأغلبيتها وأقلياتها تحت ظلال علم واحد لونه لون دماء شهدائها وهلاله رمز استقلالها والنجمة رمز شهيدها.

أمة واحدة، 78 مليون نسمة، هم تعداد سكانها من الأتراك والأكراد وشتى الإثنيات والعرقيات المختلفة، لا فضل لمن سكن الشمال عمن سكن الشرق أو الغرب أو الجنوب، كلهم سواسية لهم نفس الحقوق وعليهم عين الواجبات. يعيشون جميعاً في على أرض الجمهورية التركية، يعيشون على أرضٍ مساحتها 780 ألف كيلو متر مربع، أرضٍ لا تقبل التقسيم ولن يرفرف فوق ربوعها علمٌ آخرٌ غير علم الجمهورية التركية.

دولة واحدة لن يُسمح لأن يُشكّل فيها دولة موازية أو كيان موازن ولن يُسمح للدولة العميقة العتيقة المهترأة بأن تقود تركيا الحديثة.

هذه هي رابعة أردوغان وهذه هي مبادؤها التي لا ينفك يكررها، ولا يسأم من الجهر بها في جل محافله الجماهرية،

لكن وللأسف هناك من يسعى داخلياً لحرق رابعة التركية كما أحرق العسكر المصري رابعة مصر الخالدة. هناك في الجنوب الشرقي التركي تدور رحى المعارك بين الانفصاليين الأكراد من حزب العمال الكردستاني الذين ما برحوا يحرقون كل أمل في أن يستقر الجنوب التركي وبين الجيش التركي الذي يودع شهداءه بشكل يومي. لماذا بدأ العمال الكردستاني هذه المعركة؟ وما الذي يرمون إليه؟ وما هدفهم وحلمهم من وراء ذلك؟ هل يرغبون في إقامة كيان للأكراد؟ هل هذا الحلم ممكن؟ هل هذا ما يحلم به الشعب الكردي؟ هل هذا طموح الأكراد جميعاً؟ أم هم مجموعة تهدف إلى شق الصف التركي وعرقلة نهضة الجمهورية التركية الحديثة؟ هل هو دافع الثأر للويلات التي عاشها أباؤهم وأجدادهم من بقايا الدكتاتورية العلمانية؟ أم أنهم يمارسون إرهاباً على الأكراد أنفسهم قبل غيرهم؟ أم أنهم أجندة إقليمية ودولية لا محلية ولا كردية؟

قد لا يعرف البعض بأن العرق الكردي يعد من أكبر العرقيات والقوميات التي لا تملك دولة مستقلة أو كياناً سياسياً معترفاً به. يعيش الأكراد في مناطق مختلفة من شمال شرق العراق، وشمال غرب إيران، وشمال شرق سوريا، وجنوب شرق تركيا، وهي كمنطقة جيوسياسية قد تسمح لهم، بتواجدهم الديمغرافي، بالتطلع لانشاء دولة أو كيان مستقل سياسيا واقتصادياً. ازداد الجدل التاريخي حول الشعب الكردي بعد التغيرات التي طرأت على واقعهم بعد حرب الخليج الثانية، وخاصة بعد أن اقامت الولايات المتحدة وحلفاؤها منطقة الحظر الجوي إبان الحرب العراقية، والتي أدت في النهاية إلى نشأة ما يعرف الآن بكردستان شمال العراق، والذي يتمتع بالعديد من المقومات الاقتصادية التي تؤهله لانشاء تلك الدولة المستقلة والكيان الموحد الذي يجمع الشعب الكردي بتوزيعاته الديمغرافية المتناثرة في الدول المجاورة، فقد قدرت الإحصاءات الأخيرة التعداد السكاني للأكراد بثمانية وعشرين مليون نسمة 56% في تركيا، و%16 في إيران، و%15 في العراق، و6% في سوريا.

لا ينفي معظم من تقابلهم من الأكراد طموحهم وتطلعهم لأن يكون لهم دولة، يرفرف علم كردستان الكبرى فوق أراضيها لتكون لهم موطناً كغيرهم من العرب والفرس والأتراك، ولكن المعضلة التي تقف أمام تحقيق هذا الحلم هي أنهم يعتقدون يقيناً أن نخبهم السياسية لا تمتلك رؤية موحدة لشكل وطبيعة تلك الدولة. فأكراد العراق يتكلمون لغة تختلف لغوياً وسياسياً عن تلك التي يتحدث بها أكراد تركيا. كما أن أكراد تركيا أنفسهم يتكلمون بلسان سياسي مختلف، فمنهم من يرى أن الجمهورية التركية هي الوطن الأمن وأنهم يتمتعون بكافة الحقوق والواجبات كغيرهم من أبناء الجمهورية، وخاصة بعد قدوم العدالة والتنمية وما قدمته من ضمانات وحريات للشعب الكردي، ومن هؤلاء الوزراء والنواب والمستشارين في حكومة العدالة والتنمية

فحكومة العدالة والتنمية ومنذ وصولها للحكم بدايات الألفية الثالثة قد أولت اهتماماً خاصاً للقضية الكردية، فمنحت التسهيلات الاستثنائية والائتمانية للمستثمرين في الجنوب الشرقي التركي، وهي المناطق التي يغلب على سكانها العرق الكردي. كما أنها أعادت تمكين اللغة الكردية في الإعلام والتعليم، وعاد الأباء والأبناء يتحدثون بلغة أجدادهم دون خوف أو حرج، بخلاف ما كانوا يعانونه في ظل الحكومات السابقة.

هذا بالإضافة إلى أن حكومة العدالة والتنمية قد جازفت بشعبيتها، بل وخسرت جزءاً من قواعدها الانتخابية من أجل أن تمضي قدماً بعملية السلام الداخلي مع الأكراد، واستطاعت خلال سنوات ثلاث سبقت الانتخابات الأخيرة في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني أن توقف نزيف الدماء وتعلي صوت الحوار والتفاهم، إلا أن حزب العمال الكردستاني أبى إلا أن يعود للغة السلاح والقتل والدمار والدماء.

فما فتئت المناطق الكردية تودع أبناءها الذي يُقتلون في معارك أُرغم بعضهم على المشاركة فيها تحت تهديد المنظمة الانفصالية الارهابية "حزب العمال الكردستاني" والذي يمارس إرهاباً أسوداً بحق أبناء الشعب الكردي الذي يزعم كذباً انتماءه لهم ودفاعه عن حقوقهم، بينما تتسرب المعلومات عن تصفياته الميدانية بحق من يمتنعون عن المشاركة في قتال الجيش التركي، بل ويهدد مسلحوه مخاتير المناطق الكردية بالقتل والاغتيال إن شاركوا في اجتماعات يدعو إليها الرئيس التركي الطيب أردوغان.  

لماذا لا تقبل تركيا بكردستان كبرى تجمع شمل الشعب الكردي وتنهي بذلك مسلسل الدماء؟ لماذا لا تُجري استفتاء كاستفتاء اقليم كتالونيا الإسبانية أو اسكتلندا البريطانية اللذان لم ينجحا في الانفصال أو حتى جنوب السودان والتي استقلت عن السودان عام 2011؟

إن الموزاييك الكردي بتركيبته المتنوعة، بالإضافة إلى تعقيدات التوازنات الدولية والإقليمية، وتشعبات التأثيرات والمرجعيات الكردية، يجعل من الحركة الكردية مادة سهلة للتطويع والاختراق فمن ناحية تشهد الحركة الكردية العراقية تنافساً حاداً بين حزب الاتحاد الوطني الكردستاني" وهو حزب "جلال طالباني" الرئيس العراقي الأسبق  وبين "الحزب الديمقراطي الكردستاني" الذي يتزعمه "مسعود برزاني" رئيس إقليم كردستان العراق.

وكذا يذهب البعض إلى أن هناك صراع أجنحة داخل الحركة الكردية في الأراضي التركية، ففريق "عبد الله أوجلان" الزعيم التاريخي والمؤسس للحركة الكردية في الجمهورية التركية، والمعتقل في جزيرة إمرالي يرغب في انهاء الصراع المسلح والانخراط في العملية الديمقراطية، بينما أولئك القابعون في قنديل تحت إمرة "مراد قرة أيلان" لا يرون بديلا عن الصراع المسلح، ولا يرغبون في الدخول في أي عملية سياسية يعني نجاحها بالضرورة نزع سلاح حزبهم الانفصالي (PKK) وهذا ما لا يرغبون قطعاً به ولا ترغب به أيضاً القوى الإقليمية الداعمة لهم كأمريكا وأرمينيا وإسرائيل، وأما الطرف الثالث فهو "حزب الشعوب الديمقراطي " وهو الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني، وهو على ما يبدو سليب الإرادة ولا يستطيع أن يتخذ قراره بعيداً عن تعليمات وأوامر أولئك القابعين في قنديل.

ما لا يقبله الشك هو أن دول النفوذ في المنطقة تلعب بالورقة التركية كغيرها من أوراق توازنات القوى لصياغة مشهد إقليمي جديد يكون منهج الاحتواء هو ما سيؤول إليه الوضع الكردي في تركيا، وذلك حين يعلم الانفصاليون حتماً عزم وبأس الخيار التركي بالحفاظ على كامل ترابه دون تجزئة أو تقسيم وحزمه الصارم مع من يطالبون بالانفصال سواء في أرض المعركة أم تحت قبة البرلمان، سيعلمون في النهاية أن حتمية اندماجهم هي الملاذ الوحيد. أما أكراد العراق فسيستفيدون بتثبيت أركان حكم الإقليم في العراق وتوسيع الاعتراف بهم ككيان سياسي مستقل وذو سيادة يُرفع علمه بجانب العلم العراقي في العاصمة التركية أنقرة.

عن الكاتب

د.أحمد البرعي

باحث ومحاضر في قسم الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة أيدن


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس