د. الزبير خلف الله/ المركز العربي التركي للتفكير الحضاري - خاص ترك برس

على الرغم من أن الكتابات التي كتبت في موضوع العلاقات التونسية التركية قليلة ونادرة مقارنة بالدراسات الكثيرة التي أجريت حول العلاقات التونسية الأوروبية وخصوصا مع فرنسا إلا أني في هذه المرة سأحاول من خلال اهتمامي بالشؤون التركية أن أسلط الضوء على طبيعة هذه العلاقة بين البلدين ومراحل تطورها ومستقبلها، وننظر إليها من عدة زوايا وأبعاد قد تساعدنا على تقديم قراءة ومقاربة تحليلية لطبيعة العلاقة بين البلدين ومستقبلها، وتقدم لنا تصورا حول سياسة تونس الخارجية تجاه حلفائها التقليديين وتجاه حلفاء جدد في المنطقة من بينهم تركيا، هذه الدولة التي أصبحت تلعب دورا استراتيجيا لا في منطقة الشرق الأوسط فحسب، بل أيضا في منطقة المغرب العربي، وتسعى جاهدة أن تصبح عاملا مهما في إعادة صياغة مستقبل المنطقة، والمساهمة في خلق توازنات إقليمية جديدة تخدم مصالحها في ظل التنافس الدولي الواقع حول منطقة المغرب العربي.

1- البعد التاريخي في العلاقات التونسية التركية:

لم تكن العلاقات التونسية التركية علاقات حديثة، وإنما هي علاقات قديمة جدا تمتد الى فترة القرن السادس عشر، عندما اتجه العثمانيون إلى منطقة المغرب العربي التي تقع غرب البحر المتوسط وجنوب أوروبا. حيث نجح العثمانيون سنة 1530 من السيطرة على الجزائر، ثم بعدها تم الدخول إلى طرابلس الغرب سنة 1551، ولتنتهي بفتح تونس، وافتكاكها من يد الإسبان سنة 1574. وبذلك أصبحت كل منطقة المغرب العربي تابعة للدولة العثمانية باستثناء المغرب الأقصى. منذ ذلك التاريخ أصبحت تونس والجزائر وطرابلس الغرب ثلاث ولايات عثمانية أطلق عليها اسم "غرب أوجاقلري" أي الولايات الغربية. وانطلاقا من تلك الفترة بدأت العلاقات التونسية التركية تتوطد وتترسخ، ونشطت التجارة بين البلدين، حيث تحولت تونس بالنسبة إلى العثمانيين إلى قاعدة مهمة في منطقة البحر المتوسط وفي منطقة المغرب العربي.

واستمرت هذه العلاقات الى أن ظهر حدث كبير هز كل منطقة المغرب العربي وهو احتلال الجزائر من قبل فرنسا سنة 1830، وسعي هذه الأخيرة إلى بسط نفوذها على كامل المنطقة، الأمر الذي دفع بالعثمانيين الأتراك إلى التحرك نحو مجابهة فرنسا في الجزائر، ودعم المقاومة المسلحة التي قام بها الجزائريون هناك ضد الاحتلال الفرنسي. فكانت تونس قاعدة مهمة استخدمها العثمانيون لاستعادة الجزائر، إلا أن كل هذه المحاولات باءت بالفشل لعدة ظروف لا يتسع المجال لذكرها هنا.

في سنة 1878 قامت فرنسا وألمانيا وإنجلترا بعقد مؤتمر برلين، وتم الاتفاق في هذا المؤتمر على إعطاء الضوء الأخضر لفرنسا كي تحتل تونس وتضمها الى مستعمراتها في مقابل أن يحتل الإنجليز مصر سنة 1882. وفعلا تم احتلال تونس من قبل فرنسا، وخرجت من يد العثمانيين الذين لم يبق لهم سوى طرابلس الغرب التي ستحتل بعدها من قبل إيطاليا سنة 1911. وبذلك تكون تونس قد خرجت من يد العثمانيين وظلت قرابة الثمانيين عاما تحت الاحتلال الفرنسي، رغم أن الصحافة العثمانية كانت مهتمة بالوضع السياسي والاجتماعي في تونس إبان الاحتلال الفرنسي، وكانت الدولة العثمانية تحتج في المحافل الدولية على وحشية الاستعمار الفرنسي تجاه الشعب التونسي، وقد استقبلت تركيا عدة شخصيات وعلماء من تونس الى إسطنبول من بينهم الشيخ إسماعيل الصفايحي الصفاقسي الذي أسس جمعية شمال إفريقيا لمقاومة الاحتلال ولا زال قبره موجودا إلى حد الآن في قلب مدينة إسطنبول.

إلا أن هذه العلاقات عرفت انقطاعا كبيرا استمر إلى حدود سنة 1956 تاريخ حصول تونس على الاستقلال، وبدأت مرحلة ما يطلق عليها اسم فترة دولة الاستقلال. حيث عادت العلاقات بين تركيا وتونس خصوصا في عهد الرئيس التركي عدنان مندريس الذي أعدمه الجيش جراء توجهه نحو الانفتاح على العالم العربي والاسلامي من جديد. ويمكن القول إن العلاقات التونسية التركية في هذه المرحلة عرفت تطورا نوعيا لم يصل إلى الدرجة المطلوبة، وغاب فيها وجود رؤية مستقبلية لطبيعة العلاقات بين البلدين في المستقبل. وقد يعود هذا إلى انغلاق تركيا في تلك المرحلة عن العالم العربي، وفي الوقت نفسه توجه تونس في علاقاتها الخارجية تجاه أوروبا وخصوصا فرنسا الأمر الذي لم يفعل بشكل ناضج وقوي العلاقات التركية التونسية التي شهدت خلال فترة حكم المخلوع بن علي تطورا نوعيا أكثر بين البلدين، وبدأت هذه العلاقة تشهد نضجا نوعيا خصوصا ابتداء من سنة 2002 السنة التي وصل فيها حزب العدالة والتنمية بقيادة رجب طيب أردوغان إلى الحكم، حيث انتهجت تركيا منذ ذلك التاريخ سياسة جديدة انفتحت فيها عن العالم العربي، وكانت تونس من بين هذه الدول التي أولتها تركيا أهمية كبرى، حيث تم عقد اتفاقيات اقتصادية وثقافية بين البلدين.

إلا أن العلاقات التونسية التركية قد عرفت وتيرة أسرع، وأصبحت فيها تونس نقطة مهمة في السياسة الخارجية التركية لا سيما بعد قيام الثورة، ووصول حركة النهضة التونسية إلى الحكم، وسعي هذه الأخيرة الى تعميق العلاقات مع تركيا التي وقفت الى جانب الثورة وساندتها. حيث تصدرت الثورة التونسية العناوين الرئيسية لكل الصحف التركية، وخاصة وسائل الاعلام المحسوبة على التيار الاسلامي، كما نشط المجتمع المدني في القيام بمسيرات مساندة إلى الثورة التونسية. وقد قام رئيس الوزراء التركي السابق رجب طيب أردوغان بزيارة إلى تونس واهتمام المسؤولين التونسيين بهذه الزيارة، وتقديم تركيا مساعدات لتونس، وتصريح أردوغان والمسؤولين الأتراك بأنهم يدعمون المشروع الديمقراطي الناشئ في تونس، وأبدوا استعدادهم لمساعدة تونس على كافة المستويات وتمتين هذه العلاقات القديمة والتي تمتد جذورها إلى العهد العثماني.

2- البعد الاستراتيجي والاقتصادي في العلاقات التونسية التركية:

ذكرنا سابقا أن العثمانيين أعطوا أولوية كبيرة لتونس وذلك لأهميتها الاستراتيجية في منطقة شمال أفريقيا. وكانت تونس بالنسبة إليهم القاعدة الاستراتجية التي تم من خلالها السيطرة على منطقة البحر المتوسط وطرد الإسبان منه. هذه الأهمية الاستراتيجية لتونس دفع بفرنسا الى احتلالها من أجل القضاء على الوجود العثماني في منطقة شمال إفريقيا، ولكون تونس تمثل عمقا استراتجيا واقتصاديا للتوغل في أعماق القارة الإفريقية التي تزخر بالثروات الطبيعية الهائلة.

ولعل عودة الأتراك الآن إلى الاهتمام بتونس ووقوفهم الى جانب الثورة وتقديمهم مساعدات مادية ولوجستية يندرج ضمن هذه الرؤية الاستراتيجية للسياسة الخارجية التركية التي تدرك هذا العمق الاستراتيجي والاقتصادي لتونس في منطقة المغرب العربي الغني بالنفط،  والذي يملك ثروات طبيعية هائلة يمكن لتركيا أن تستفيد منه على المستوى القريب والبعيد. كما أن تونس تمثل بوابة مهمة لتركيا من أجل التحكم في منطقة البحر المتوسط، والتوغل داخل إفريقيا التي مازالت ولاتزال محل تنافس دولي كبير على ثرواتها. تركيا الناهضة اليوم ليست بمعزل عن هذا التنافس الاقتصادي العالمي، ومن الطبيعي جدا أن تبحث لها عن قدم هناك في قلب إفريقيا، وترى في تونس بوابة اقتصادية مهمة وبلدا مناسبا في معركة الصراع الاقتصادي الدولي على إفريقيا. لا يمكن أن ننكر أن هناك تنافسا كبيرا بين تركيا وفرنسا في تونس وفي منطقة المغرب العربي التي توجد جنوب أوروبا، وتمثل عمقا استراتيجيا مهما يجمع بين كل القارات الثلاث.

ومانراه اليوم من تنافس غربي على ليبيا والتدخل الفرنسي في مالي وفي افريقيا الوسطى ما هو إلا صورة تدلل على أن منطقة المغرب العربي تشكل في بعدها الاستراتيجي والاقتصادي أهمية كبرى في السياسة الدولية، و تمثل إحدى مواطن هذا الصراع الدولي. ويبدو أن الموقف التركي الإيجابي تجاه الثورة التونسية والثورة الليبية حلقة من حلقات الصراع الفرنسي التركي على هذه المنطقة التي تطمح كل قوة من القوى المتنافسة على الاستفادة من ثرواتها الاقتصادية، ولا سيما ثورة النفظ والغاز والذهب والماء، وهي كلها ثروات استراتيجية مهمة قد تكون سببا لحدوث حرب مستقبلا بين هذه القوى المتنافسة في المنطقة.

لقد راهن الأتراك بعد الثورة على ربط علاقات جيدة مع حركة النهضة التي يتقاربون معها في الايديولوجيا و الخلفية الفكرية الاسلامية،  ووقفوا معها وقدموا المساعدات اللازمة لحكومة النهضة التي أحدثت سلوكا مختلفا في سياسة تونس الخارجية من حيث البحث عن حلفاء جدد في العالم، وكانت تركيا من أهم الدول التي أولتها تونس الأهمية الكبرى للتعامل معها، بل واعتبرتها الحليف الاستراتيجي القادم لتونس في المستقبل.

لقد صارت تونس مركز جذب للاستثمارات التركية ولرجال الأعمال الأتراك.  وهذا يعكس رؤية تركيا إلى تونس على أنها أهم منطقة مناسبة للاستثمار فيها وفي منطقة المغرب العربي التي باتت تشكل بديلا لمنطقة الشرق الأوسط التي تعيش اضطرابات كبيرة تهدد المستثمرين ومشاريعهم.  تونس مابعد الثورة بدت تنظر بطريقة براغماتية في علاقاتها الدولية، وترى أن الاكتفاء بالحليف الاستراتيجي الأوروبي لا يخدمها في المستقبل. لذلك انتهجت سياسة البحث عن حلفاء جدد من أهمهم تركيا التي تقف اليوم الى صف الثورة التونسية ومستعدة  لدعم المشروع الوطني الديمقراطي الناشئ في تونس. البعد الاستراتيجي والاقتصادي يشكل أهم بعد لطبيعة هذه العلاقات بين تونس وتركيا وعلى ضوئها يحدد مستقبلها وتطورها. 

3- البعد الحضاري والثقافي في العلاقات التونسية التركية:

لقد شكلت عودة تركيا بقوة إلى منطقة شمال افريقيا وخصوصا إلى تونس مرحلة جديدة سينتج عنها تغيرا في طبيعة التوازنات الإقليمية في المنطقة، و يجعل من تركيا لاعبا جديدا تجمعه مع تونس عدة مشتركات حضارية ودينية وتاريخية وسياسية، مما يجعل تركيا منافسا مهما لأوروبا وخصوصا لفرنسا في تونس وفي منطقة المغرب العربي، بل ستكون تركيا الحليف الاستراتجي القادم لمنطقة المغرب العربي.

إن تركيا الجديدة لا تنظر إلى تونس من زاوية استراتجية واقتصادية فحسب، بل إنها تنظر إلى تونس على أنها تشكل عمقا حضاريا مهما يتفق فيه التونسيون والأتراك معا، لا سيما إذا نظرنا الى التقارب الفكري بين حزب العدالة والتنمية الحاكم وحركة النهضة التي بدأت تمثل أقوى حزب في الساحة السياسية  تونس، ولها مستقبل مهما في ادراة الدولة. هذان الحزبان يتقاربان في فهمهما للمشروع الاسلامي الديمقراطي. فالتجربة التركية مثلت بالنسبة الى أبناء النهضة نموذجا رائعا في إدراة الدولة وفي بناء المشروع الوطني الحضاري في تونس. إن هذا التقارب في المشترك الفكري والحضاري بين حزب العدالة والتنمية التركي وحركة النهضة سيكون عاملا مهما جدا في رسم ملامح العلاقات السياسية مستقبلا بين تونس وتركيا.

 ومهما كانت طبيعة النظام في تونس وفي تركيا سيظل المشترك الحضاري والثقافي الجامع بين تركيا وتونس عاملا مساعدا إلى تطوير هذه العلاقات بين البلدين. لقد تم توقيع عدة اتفاقيات بين تونس وتركيا في المجال الاقتصادي و التعليمي والثقافي وتبادل الخبرات والكفاءات والطلاب بين البلدين. وهذا يمثل دفعا حيويا لإحداث دينامية فاعلة نحو صياغة علاقات بين البلدين مبنية على رؤية مستقبلية يتداخل فيها الاقتصادي بالاستراتيجي والثقافي بالحضاري، ويكون لبنة جديدة نحو بناء مشروع حضاري عربي إسلامي تتفاعل فيه التجربة التونسية بالتجربة التركية.

عن الكاتب

د. زبير خلف الله

كاتب - المركز العربي التركي للتفكير الحضاري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس