ترك برس

ولد السلطان ياووز سليم، وهو أحد أبناء السلطان بيازيد الثاني، في مدينة أماسيا عام 1470، وتلقى علومه الدينية والدنيوية في نفس المدينة التي أُطلق عليها اسم "مدينة الأُمراء"، لاحتضانها العديد من الأمراء العثمانيين في فترة تعليمهم. تولّى ياووز سليم ولاية طرابزون في عام 1481 بعد تولي والده للسلطنة العثمانية، وعمل لما يقارب نصف قرن في إدارتها مما أكسبه خبرة إدارية وسياسية.

اكتسب السلطان ياووز سليم خبرة عسكرية كذلك، فقد تصدى خلال ولايته على طرابزون لعدة هجمات من جورجيا ومن الصفويين، فأقنعت قدراته في القيادة العسكرية الإنكشارية على تقديمه على إخوته الكبار والمطالبة بتوليه السلطنة بعد وفاة والده على خلاف العرف العثماني، ليكون الإنكشارية الجناح العسكري له.

منذ توليه للسلطنة في سن الأربعين، أخذ السلطان ياووز سليم يحذر القادة والوزراء من خطر الشاه إسماعيل وفكره الصفوي على وحدة المسلمين وصحة عقيدتهم، وقد تلقى وعدًا من قادة الإنكشارية بمساندته في حربه ضد الشاه إسماعيل. وفي أثناء ذلك، تواصل ابن أخيه "مراد" مع الشاه إسماعيل ووعده بالوقوف إلى جانبه لمحاربة عمه السّلطان، إلا أن ياووز سليم لم يرَ فيهما خطرًا شديدًا وكانت أنظاره مسلّطة على خطر تحالف بعض الدول الأوروبية مع الشاه إسماعيل، فاستبق كل ذلك بإرسال رسائل إلى فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية عرض فيها إرساء السلام وتعزيز العلاقات، بهدف تأمين الجبهة الغربية من أي هجوم مفاجئ.

تحرك السلطان سليم بجيشه نحو أذربيجان والمدن الإيرانية القريبة من حدود بلاد الأناضول عام 1502، بهدف القضاء على الدولة الشيبانية العلوية الموجودة في تبريز والمبايِعة للشاه إسماعيل، وتمكن من تحقيق هدفه ومضى في طريقه نحو أذربيجان. عاد السلطان إلى إسطنبول لإعادة تجهيز الجند والعتاد، وبينما هو في إسطنبول، أعلن "شاه كولو بابا تكالي" تمرده ضد السلطان العثماني في أنطاليا عام 1511، وانطلق بجيشه إلى كوتاهيا وتمكن من السيطرة عليها وقتل بالصدر الأعظم "علي باشا" قائد الجيش العثماني. لم يكتفِ شاه كولو بذلك بل استمر في طريقه نحو بورصة، ولكنه لم يتمكن من دخولها، حيث تمكن الجيش العثماني من صده، ولحق الجيش العثماني بجيشه حتى أنطاليا، مستردًا إياها من تحت قيادته، ليجبره للهروب إلى إيران، ويُقال إن قادة عثمانيين تمكنوا من قتله ولكن ذلك لم يثبُت.

إلى جانب تمرد الشاه إسماعيل على الدولة العثمانية، فإن الظلم الذي كان يمارسه على السنة المقيمين في إيران دفع السلطان ياووز سليم إلى تجهيز جيشه للقضاء عليه بشكل كامل.

ادّعى الصفويون ارتكاب السلطان سليم إبادة جماعية بحق 40 ألف علوي تركي وكردي في فترة حكمه، إلا أن وثائق في الأرشيف العثماني وبعض أرشيفات الدويلات الصغيرة التي كانت متواجدة في وسط آسيا مثل دولتي "أق يونلو" و"الأرتقلية" تشير إلى أن الشاه إسماعيل قد قتل وشرد ما بين 40 إلى 50 ألف سني من إيران ومحيطها، وعذب آخرين لرفضهم الانصياع لطلبه تحويل مذهبهم من السني إلى الصفوي، ولم ترد أي إشارة على قيام السلطان سليم بقتل 40 ألف علوي تركي وكردي لرفضهم التحول نحو المذهب السني. كما أن ما يؤكد بطلان هذا الادّعاء عدم تواتر قصة المذبحة المزعومة لدى العلويين في تركيا، ولم يرد هذا الادعاء في كتاب "الحشد" لـ"إدريس البتليسي" الذي كان يوثّق للسلطان بيازيد والسلطان ياووز سليم، والذي ضاق ذرعا بهما ورحل إلى وسط آسيا وفي الوقت نفسه لم يورد ذكر المذبحة المزعومة.

لم تكن حرب ياووز سليم ضد الصفويين عسكرية بحتة، فقد شملت سياسة ناعمة أيضًا، إذ أعفى السلطان سليم من لجؤوا إلى الشاه إسماعيل ثم عادول إلى الدولة العثمانية من دفع الضرائي، كما أوصى جنوده بتجنب قتل أو إهانة أي مواطن عثماني وفرض عقوبات على ذلك، ومنع إقامة علاقات اقتصادية مع إيران فيما يشبه الحصار الاقتصادي. اعترض بعض رجال الدولة العثمانية على قرار السلطان شن حرب شاملة على الشاه إسماعيل، كما سانده بعضهم مثل "ابن كمال" و"نوردين صاري جور".

امتثل السلطان سليم للعرف الإسلامي الذي ساد منذ عهد النبي ﷺ وحتى انهيار الدولة العثمانية، فدعا الشاه إسماعيل إلى الحياد عن فكره ونهجه أكثر من مرة ودعاه للخضوع إلى السلطنة، إلا أن الشاه إسماعيل قتل مبعوث السلطان سليم ليشعل فتيل الحرب. تحالف الطرفان مع بعض القوى في الحرب، فاتجه الشاه إسماعيل إلى البندقية والأكراد المقيمين على أطراف الأناضول، واتجه السلطان سليم إلى القبائل الأوزبكية، لكن هذه التحالفات فشلت كلها، كما رفضت القبائل الكردية المُبايعة للسلطان سليم الأول الانصياع للشاه إسماعيل.

وبينما كان السلطان سليم يسير بالجيش لقتال الصفويين، ظهرت على جيشه علامات الإرهاق وبدأت تنفد أرزاق الجيش، مما أظهر سخطا لدى بعض قطاعات الجيش، فدخل السلطان سليم بين صفوف الجند وخاطبهم قائلًا: "لم نصل بعد إلى المكان المطلوب، ولم نقابل العدو بعد، لذا ليس هناك أي مجال للتراجع، بل إن مجرد التفكير في ذلك هو أمر من وحي الخيال. أنصار الشاه إسماعيل يضحون بأنفسهم وسلطانهم على خطأ، ونحن نذهب لنصلح هذا الانحراف في ديننا ونتراجع، بحجة نقص بسيط في المؤونة، أنتم الجيش المحمدي، ألا تتذكرون تضحيات نبيكم وأصحابه في معركة الخندق، إذا كنتم شجعانا فانطلقوا من خلفي، وإن كنتم غير ذلك فهذه طريق العودة أنتم أحرار"، لتواصل الإنكشارية سيرها مع السلطان سليم.

وصل الجيش العثماني منطقة "تشالديران" قرب تبريز والعرمية على الحدود التركية الإيرانية، واشتبك مع جيش الشاهل إسماعيل في 23 آب/ أغسطس 1514 وحقق نصرًا كاسحًا في معركة لعبت المدفعية فيها دورًا أساسيًا، ممّا دفع الشاه إسماعيل إلى الهرب مع بقية من جيشه إلى طهران وترك حتى زوجته "تاجلي هاتون". واصل السلطان المسير بالجيش حتى منطقة "قره باغ" في أذربيجان لقضاء فصل الشتاء هناك ثم العودة في الربيع للقضاء على الشاهل إسماعيل، إلا أن الإنكشارية رفضوا ذلك فعاد الجيش إلى الأناضول.

كان الأكراد يحظون بحكم ذاتي إبان الدولة العثمانية، وخاصة في ديار بكر، مما شجع الشاه إسماعيل على تأليبهم ضد الدولة العثمانية لكنهم لم يستجيبوا لدعوته، وأكدوا له في غير مرة أنهم عثمانيون وسنة وليسوا بحاجة إلى دولة حامية أو دين جديد. غضب الشاه إسماعيل من ردهم وارسل جيشها لحصارهم من 25 إلى 30 مرة، إلا أن محاولاته كلها باءت بالفشل.

أرسل حاكم الأكراد آنذاك "إدريس بيك" خطابا إلى السلطان سليم قال فيه: "بايعنا السلطان العثماني الأعظم منذ زمن، وتجنبنا دائما دعوات الباطل، طبقنا المذهب الشافعي السني فخرًا، لما رأينا فيه من صواب وبُعد عن الضلالة والبدع، وبناء على ذلك فإننا نطلب من السلطان المساعدة والعون، فقد حاربنا الإلحاد والبدع لأربعة عشر عامًا ولكن طاقتنا نفدت ولم نتمكن من القضاء عليهم. سيعود مد يد العون لنا عليكم بمكاسب دنيوية، حيث أن تحصين مدينة ديار بكر المركزية يعني تحصين كافة بلاد المسلمين، ومكاسب للحياة الآخرة، حيث رضى الله الواحد الأحد".

كان رد السلطان سليم كما يلي: "خطابكم وصل إلينا. أعلم دورك الأساسي في فتح مدينة ديار بكر وإلحاقها بالدولة الإسلامية، بيض الله وجهك وجعلك سببًا في فتح المزيد من المدن والديار. أرسلت إليكم مع نائبي "محمد باشا" العون والعتاد، وأتمنى أن يفي ذلك بما تحتاجون. سيستمر حكمكم الذاتي، ولكنني أتمنى أن يحرص الجميع على إبقاء أواصر الوحدة قوية بين الديار الكردستانية والدولة العثمانية. وسيفعل محمد باشا كل ما بوسعه لتوفير الأمن والحماية لدياركم العتيدة".

* المصدر: عبد القادر أوزجان، “سياسة السلطان العثماني ياووز سليم تجاه المواطنين الأكراد”، دارين تاريخ، تموز/ يوليو 2013

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!