محمود علوش - الشرق

في زمن التحوّلات الكبرى الخارجة عن سيطرة موازين داخلية وخارجية كرّستها اتفاقية سايكس بيكو في الشرق الأوسط، وأمام الحدود الجديدة التي تُرسم بالدم، لا يمكن أن تقف مكتوف الأيدي إذا ما أردت حماية كيانك ومصالحك وأمنك القومي من تلك التغيّرات العابرة للحدود. هذه الوضعية الطارئة تنطبق حاليًا على تركيا التي نجحت على مدى العقود السابقة في النأي بنفسها عن صراعات الدول المجاورة إلى حدّ مقبول، رغم إخفاقها في معالجة المسألة الكردية لأسباب خارجة عن إرادتها ومرتبطة عضويًا بالحالة الكردية في سوريا والعراق على وجه التحديد.

وبما أن سياسة الوقاية والتحذير التي اتّبعتها أنقرة منذ بداية الصراع السوري، لم تُجدِ نفعًا أمام التمدد الكردي على الجبهة الجنوبية مع سوريا، والذي تجاوز الخطوط الحمراء بعد عبور الانفصاليين الأكراد شرق نهر الفرات إلى غربه في محاولة منهم لربط مناطق تواجدهم في شمال شرق البلاد بمنطقة عفرين في أقصى شمال الغرب، كان لزامًا على الدولة التركية إطلاق عملية درع الفرات في الرابع والعشرين من أغسطس الماضي للحد من هذا التمدد، وإدخال قواتها عبر بوابة جرابلس إلى شمال حلب، لتشكل بذلك رادعًا عسكريًا قويًا أمام المساعي الكردية. ولا تزال أمام أنقرة مهمة تطهير المنطقة الممتدة بينها حدودها ومدينة الباب في ريف حلب الشرقي من تنظيم داعش، وربما التحرك مستقبلًا باتجاه بلدة منبج على ضفاف نهر الفرات لدحر الانفصاليين الأكراد تمامًا من غرب النهر.

لكنّ جبهة أخرى في العراق ينظر إليها الأتراك بعين الريبة أيضًا، حيث لا ينحصر القلق بالخطر الكردي فحسب، بل يشمل خطرًا آخر يتمثّل في التمدد الشيعي المدعوم إيرانيًا. كان من الطبيعي أن تطرح تركيا تحفظات على معركة الموصل المرتقبة لما لها من انعكاسات سلبية على الإستراتيجية التركية في حال لم تأخذ عملية تحرير المدينة الحسابات التركية ومن بينها منع انتقال عناصر داعش من الموصل باتجاه محافظة الرقة ومدينة الباب السوريتين، حيث إن ذلك لو حصل، فسيعقّد إلى حد كبير الحسابات التركية في عملية درع الفرات وسيضيف عليها أعباءً عسكرية إضافية يمكنها أن تحد من نجاحاتها.

هناك تحفّظات تركية أخرى في حسابات الموصل كالتحذير من عزم ميليشيات الحشد الشعبي الشيعية الموالية لإيران من دخول قضاء تلّعفر الذي تقطنه أغلبية تركمانية وتأسيس حزامها الشيعي الواصل بين إيران وسوريا مرورًا بالعراق عبر تلعفر، لاسيَّما أنّ هذا الممر انقطع عقب احتلال داعش للقضاء المذكور، الأمر الذي أدّى إلى قطع الطريق البري الذي يصل سوريا بإيران. ورغم أن واشنطن قدّمت ضمانات لأنقرة بعدم السماح لميليشيات الحشد بالدخول إلى مركز مدينة الموصل، إلّا أنّ واشنطن أبلغت في الوقت نفسها عزمها على ترك تلعفر التي تعد أكبر قضاء تابع للموصل إلى الميليشيات.

في حال تعاظمت قوة الميليشيات الشيعية في تلعفر، فإنّ هذا سيؤدي إلى إلحاق الضرر بوجود البيشمركة في سنجار كقوة مضادة لحزب العمال الكردستاني الانفصالي، وسينتهي الأمر ببقائه في جبل سنجار إلى أمد طويل. وقد نشرت وكالة الأناضول التركية الحكومية في وقت سابق تقارير استخباراتية تركية تشير إلى قيام الحشد الشعبي بتجنيد قرابة ألف من سكان سنجار اليزيديين تحت سقفه، وهذا يشير إلى تحالف ضمني بين تلك الميليشيات وحزب العمال قائم على المنفعة المتبادلة بينهما.

لا يمكن تجاهل صراع النفوذ بين تركيا وإيران في كل من الموصل وحلب، فالرئيس التركي رجب طيب أردوغان تحدّث بصراحة عن هذا المخطط عندما قال إن بلاده مُستهدفة بشكل شرس فيما يتعلق بمسألة الموصل لأنها تحدث تغييرا في التوازنات الإقليمية. ومن الواضح أن طهران تمارس ضغوطًا كثيفة على حكومة العبادي لإخراج أنقرة من معادلة الموصل تمهيدًا لمخططها الهادف إلى قلب التوازنات الإقليمية في المنطقة ابتداءً من الموصل ووصولًا إلى حلب، وهي تسعى منذ بداية الصراع السوري إلى إيجاد ممر بري لها يبدأ من الحدود الإيرانية إلى الساحل السوري مرورًا بالعراق وشمال حلب، وقد استثمرت كل شيء في سوريا لتحقيق طموحها.

ويمكن القول إن عملية درع الفرات التركية فاجأت الإيرانيين على نحو كبير لأنّ من شأنها عرقلة المخطط الإيراني في حلب. كما أن الإصرار التركي على التواجد في معسكر بعشيقة شمال الموصل من شأنه أيضًا ضرب مشروع قائد الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني في الموصل. من هذا المنطلق يمكن فهم استنفار قادة الميليشيات الشيعية في العراق التي يشرف عليها سليماني نفسه، ورفعها نبرة التحدي تجاه الأتراك إلى حد التلويح بقتال القوات التركية في بعشيقة.

أمام هذه المعطيات، فلن يكون بوسع تركيا التراجع عن دورها المطلوب في معركة الموصل، وإلاّ فسينطبق عليها القول المأثور "أكلت يوم أكل الثور الأبيض". كما أن التعويل على الولايات المتّحدة الأمريكية في مراعاة مصالحها بالعراق لم يعد يُجدي نفعًا، حيث إن الأمريكيين سبق لهم أن أخفقوا مع الأتراك في امتحان سوريا ولا يزالون حتى اليوم يُقدّمون الدعم لحزب الاتحاد الديمقراطي هناك، وهو الذي تعتبره أنقرة الجناح السوري لحزب العمال الكردستاني.

عن الكاتب

محمود علوش

صحفي لبناني


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس