أسامة أسكه دلي - خاص ترك برس

يبدو أن فكرة التعصّب لرأي ما، وعدم تقبل الرأي الآخر، ونبذ كل من يخالف التوجّه والمعتقد، أمور ليست خاصة بفئة فكرية أو سياسية أو اجتماعية دون غيرها، ويبدو أنها أشبه بآفة بشرية موجودة حتى لدى من يدّعون بأنهم "شعب الله المختار في العلم والثقافة والفكر"!!!! عمّن أتحدّث؟ الجواب في السطور التالية.....

إرهاصات الفكر العلماني في تركيا بدأت في القرن الثامن عشر أيام الدولة العثمانية، وذلك من خلال الطلاب الذين كانوا يدرسون في الدول الغربية، وعلى وجه الخصوص في فرنسا. وتكرست العلمانية كمنهج ومؤسسات عام 1924 بعد تعديل الدستور الذي أزال سطر "دين الدولة هو الإسلام".

ما هو معروف عن الفكر العلماني السائد أنه يقوم على فصل الدين عن الدولة، ولكن علمانيي تركيا ذهبوا إلى أبعد مما ذهب إليه علمانيو الغرب، إذ وصل الفكر العلماني في تركيا إلى إجبار الناس على مفاهيم تتناسب مع أهوائهم، على سبيل المثال "عصمت إينونو" أجبر الأئمة في المساجد على قراءة الفاتحة في الصلاة باللغة التركية، ومنع قراءة الأذان باللغة العربية، وطبّق غيرهما من الممارسات القسرية الأخرى.

هنا لا بدّ لنا من أن نطرح السؤال التالي: أليست العلمانية في أحد تعريفاتها تقتضي "عدم إجبار الحكومة أو الدولة أحدا على اعتناق وتبنّي معتقد أو دين أو تقليد معيّن لأسباب ذاتية غير موضوعية؟ إذا كان كذلك لماذا ذهب علمانيو تركيا إلى أبعد من ذلك وخالفوا التعريف العام للعلمانية، واتبعوا عكس التعريف العام؟ أم أن هذه التعريفات تبقى في أطر الكلام ولا علاقة لها بالفعل؟

يُبرز الكثير من العلمانيين أنفسهم على أنهم دعاة الرقي والتمدن الفكري، وإن كانوا بالفعل كذلك نفهم أنه من الضروري بمكان كما يطالبون باحترام آرائهم أن يحترموا آراء غيرهم. 

ذات مرة نقل لي أحد الأصدقاء في تركيا قصة جرت مع صديق له يعمل طبيبا لدى مستشفى حكومي محسوب على الفئة العلمانية، وذات يوم بينما ينتظر الطبيب المصعد في المستشفى فإذا بزميل له يقف إلى جانبه يريد الصعود بالمصعد، فألقى الطبيب على زميله تحية الإسلام "السلام عليكم" فما كان من زميله الآخر والذي يعمل طبيبا بدوره إلا أن قال له: ما هذه الطريقة التي تحييني بها؟ ، هل يليق برجل مثلك وبمقامك أن يحي بـعبارة "السلام عليكم".

عانت تركيا على مدى سنوات من الفكر العلماني وجبروته، إذ كان لدى الفكر العلماني كل امراة متحجبة هي أقل شأنا من غير المتحجبات، وأقل ذكاء، فكانوا لا يخفون تعجّبهم من امراة طبيبة ترتدي الحجاب بملئ إرادتها، لأن ارتداء الحجاب بالنسبة إلى كثيرين من العلمانيين دليل نقص في العقل. استفحل الأمر أكثر وانتقل إلى وصف كل من تظهر عليه علامات التدين "بالرجعي أو المتخلف".

سردت كل ما سبق لكي أروي القصة التالية، الكاتب سيردار تورغوت، أحد الإعلاميين الأتراك، والمعروف بتبنيه للفكر العلماني، أشاد بنجاحات الدولة التركية في ظل حزب العدالة والتنمية المعروف بهويته الإسلامية، ونقل عبر كتاباته النجاحات التي حققتها حكومات العدالة والتنمية على مدى أعوام بعيد مجيئه إلى سدة الحكم.

قال في مقالة له جاءت تحت عنوان "لو لم يكن أردوغان": شخصيات عديدة أعرفها من داخل تركيا وخارجها، وهي شخصيات معارضة لأردوغان، ليست معارضة فقط بل وتشعر بالكراهية تجاهه، أجمعت على رأي بعيد تحليلاتهم للأحداث الأخيرة على الساحة السياسية، وهذا الرأي كان مفاده: "ما كان لتركيا أن تتجاوز الصعاب التي مرّت بها لو لم يكن أردوغان على رأس القيادة".

ولفت الكاتب إلى أن تلك الشخصيات لن تعبّر عن آرائها في بيان رسمي، في حال طُلب منهم ذلك، ولكن من السهولة بمكان استنباط الأمر من خلال تحليلاتهم الشخصية المتعلقة بتركيا، لافتا إلى أن الكثيرين منهم وبشكل غير إرداي سيجيبون لدى سؤالهم عن آرائهم: "إنه لمن حسن حظ تركيا أن أردوغان على رأس الحكم".

تابع الكاتب في مقاله، بأن أردوغان تنطبق عليه الصفات التي يجب أن تتوافر لدى القائد في العصر الجديد، وهي صفات فرضتها التطورات العالمية والتي تختزل بما يلي: "الجريء، الواضح، الشفاف، يقف خلف وعوده، لا ينحني أمام الظروف".

ولا يتوانى "تورغوت" عن الإعلان صراحة تأييده للنظام الرئاسي، وهو النظام الذي اقترحه حزب العدالة والتنمية، إذ يقول: "أؤيد الانتقال إلى النظام الرئاسي، وتعيين أردوغان رئيسا لسنوات طويلة، أرى أن تركيا تحتاج إلى رئيس قوي مثل أردوغان، ولا سيما في ظل التطورات السياسية الجديدة في العالم، وفي ظل تشكل مواصفات قيادية جديدة على المستوى العالمي".

إن هذه التصريحات عندما تصدر من كاتب علماني، تكون أشبه بالاعترافات، وليس هذا غريبا، فالفكر المتمدن والمتحضر يقتضي التصفيق للنجاحات حتى لو كان صاحب النجاح هو الخصم ذاته.

ولكن الغريب في الأمر هو أن يخسر هذا الكاتب أصدقاءه لمجرد تصفيقه لما رآه صحيحا، إذ يقول في نهاية مقاله: "منذ اليوم الأول الذي كتبت فيه مقالة تشيد بأعمال حزب العدالة والتنمية عملت المعارضة على إبعادي وإقصائي من صفوفها، ومازال هناك الكثير ممن يعمل على إقصائي ليس من طريقه فحسب، وإنما من حياته كلها، وأظن بعد مقالي هذا "لو لم يكن أردوغان" لن يقوموا بإلغائي من حياتهم فقط، وإنما سيعملون جاهدين على نسياني، ولكنني سأستمر في كتابة ما أراه صحيحا".

عن الكاتب

أسامة أسكه دلي

محرر أخبار لدى ترك برس


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس