من العبارات التي مرّت معي خلال المرحلة الجامعية، والتي كان أستاذ مادة علم الجمال يعيدها على مسامعنا كلّما سنحت له الفرصة، أو كلّما كان سياق الكلام موائما لذكرها هي "لِنختلف، فالاختلاف ضرورة، وإن لم نكن مختلفين فلنتعلّم كيف نختلف".

منذ ذلك الحين وهذه العبارة رسخت في ذهني، إلى أن غدا كل ما هو متعلّق بالاختلاف سواء أكانت عبارة أم مقالة يستهويني. وكان الأستاذ الجامعي نفسه يعيد على مسامعنا عبارتي "تعلمت من الثرثار جمال الصمت" و"تعلمت من الغبي جمال الذكاء" ويتابع: هنا أيضا يكمن مبدأ الاختلاف. ففهمت أن الاختلاف من أهم ضروريات الحياة، لأن ضعف أو قبح أحد الطرفين يُظهر قوّة وجمالية الطرف الآخر.

عبارتا "تعلّمت من الثرثار جمال الصمت" و"من الغبي جمال الذكاء" تتجلى بأبهى صورها في السياسة التركية في علاقة الأحزاب فيما بينها.

صحيح أنّ ما قدّمه حزب العدالة والتنمية من خدمات للبلاد والشعب، والنقلة النوعية التي حققها في تركيا، ساعدته في البقاء في سدة الحكم طوال 15 عاما، ولكن هناك عامل آخر مهم أسهم في سطوع نجمه وهو "ضعف" الأحزاب الأخرى، وعدم وجود حزب منافس، وهذا ما قصدته بعبارة تعلمت من الغبي جمال الذكاء".

تعلّمنا من ضعف حزب الشعب الجمهوري قوّة حزب العدالة والتنمية

ما جعلني أعكس العبارة على واقع السياسة التركية، هو التصريحات الأخيرة التي أدلى بها زعيم حزب الشعب الجمهوري، أكبر الأحزاب السياسية المعارضة في تركيا، لصحيفة  "زود دويتشه تسايتونج" الألمانية، والتي تطرق فيها إلى المرحلة المقبلة من الاستفتاء على الدستور الجديد المتضمن استبدال النظام البرلماني بالنظام الرئاسي.

عندما قرأت العبارة أعدت قراءتها مرّات عدّة علّي أجد تبريرا منطقيا للسبب الذي دفع بـ كليجدار أوغلو إلى النطق بها، إلا أنني عبثا حاولت، ولم أتمكن من أن أجد أي تبرير للسبب الذي دفع بـه إلى التصريح الذي أقل ما يمكن وصفه بأنه غبي.

يقول للصحيفة في معرض انتقاده للنظام الرئاسي، مبديا اعتراضه للدستور الجديد: "إن الاستفتاء لن يضفي مشروعية على تغيير النظام، والمشاكل ستكون متواجدة باستمرار، إن الدستور الذي نعمل وفقه الآن ظهر بعيد الانقلاب العسكري في عام 1980 وفي شروط مشابهة للشروط الحالية، وإلى الآن الجدل حوله مستمر".

إن تأملا بسيطا لعبارة كليجدار أوغلو، كفيل بإظهار مدى البلاهة التي يتمتع بها هذا الرجل، وذلك للأسباب التالية:

لمجرد قوله: الاستفتاء لا يضفي أي مشروعية على تغيير النظام في تركيا، يعني أنّه ينسف بمفهوم الديمقراطية التي يكاد يذكرها في كل جملة ينطق بها. من يستمع إلى تصريحات مسؤولي حزب الشعب الجمهوري يلحظ أنّه لا توجد جملة ينطق بها مسؤول من الحزب إلا وتحتوي على ذكر كلمة الديمقراطية عشرات المرات، حتى تخال أنّهم هم من أوجدوا هذه الكلمة. ولكن في التطبيق لا تجد لها أي أثر. أليس الاستفتاء هو عرض الأمر المراد استفتاؤه على الشعب، فإن حصل على موافقته يتم الأخذ به. وإن لم يحصل يُترك؟ وفي هذه الحال، ألأ يعد نسف قرار الشعب، والحكم بأنه لا يضفي بالمشروعية نقض للمفاهيم والقيم المتبنية من قبل حزب الشعب الجمهوري؟ فهل هناك سلطة أكبر من سلطة الشعب في المجتمعات المتحضرة والمتمدنة؟ ألم يصدّع حزب الشعب الجمهوري رؤوسنا بعبارته التي تفيد بأن الشعب هو صاحب ومصدر السلطة؟ إذن أين المشكلة في استفتاء الشعب وسؤاله؟

الهفوة الأخرى في تصريحه هي إقراره بأن الدستور الذي تعمل تركيا وفقه وليد انقلاب عسكري تم عام 1980، وبأنه مازال مثارا للجدل على الرغم من مرور السنوات الطويلة عليه.

المنطق وليس أي شيء آخر يقول: لطالما أن كليجدار أوغلو يقر بنفسه أن الدستور الحالي الذي يتم العمل على أساسه، وليد "انقلاب عسكري"، وأنه مازال مثارا للجدل، أليس الجدير به أن يتم استبداله بدستور آخر جديد، لا يترك للجدال مجال؟

وأضعف الإيمان أنّه لطالما أشار في حديثه إلى أن الدستور الجديد في حال حصل على تأييد شعبي سيبقى مثارا للجدل، كما الدستور السابق، فهذا يعني أن أي دستور، مهما كان متقنا، سيكون مثارا للجدل بحسب منطق كليجدار أوغلو، أي أنّ الجدل حول الدستور أيّا كان، هو أمر طبيعي، إذن نسأل كليجدار أوغلو أين المشكلة في أن يكون الدستور الجديد مصارا للجدل كسابقه إن كانت هذه حالة طبيعية؟؟؟؟.

هذا ما قصدته بعبارة "تعلمت من الغبي جمال الذكاء"، فوجود معارضة ضعيفة، يعزز من قوة حزب العدالة والتنمية، وبالتالي يقوّي من فرص نجاح مقترحاته.

قال كليجدار أوغلو منتقدا موقف باهتشلي زعيم حزب الحركة القومية المؤيد للدستور الجديد: "لا يمكنني أن أفهم سبب تأييد باهتشلي للدستور الجديد، اسم حزبه "الحركة القومية"، ويكاد باهتشلي أن يكرر كلمة "القومية" في كل خطاباته، ويقوم بعد ذلك بالتقاط صور جنبا إلى جنب مع رجل يدهس القومية تحت قدميه (في إشارة منه إلى صوره مع الرئيس أردوغان)".

وأنا لا أستطيع فهم قدرة حزب الشعب الجمهوري على نسف قيم الديمقراطية، وهو أكثر الأحزاب ذكرا لهذه لكلمة "الديمقراطية" ......

لا نطلب من حزب الشعب الجمهوري أن يؤيد الدستور، فالاختلاف ضرورة كما ذكرنا، ولا بد منه، وقالها يلدرم سابقا في اجتماع الكتلة البرلمانية لحزبه: "ليس من الضروري أن توافق كافة الأحزاب السياسية على الدستور، فمن الطبيعي أن يوافق حزب، ويرفض آخر، ولا يوجد شيء يحتّم الموافقة الجماعية، فالاختلاف طبيعي، والقرار النهائي للشعب".

ولكن نقول له: وإن كان لا بد من مخالفتك فكن عقلانيا، لا لشيء وإنما لتحظى بقوة واحترام بين الأحزاب السياسية، ولتحترم رأي الشعب الذي تستخف بموقفه، وتنظر إليه بأنه غير كفيل بإضفاء المشروعية على الاستفتاء، وليتأمل كليجدار أوغلو، لطالما أنّه عارض الدستور الجديد لكونه منافيا للدين الإسلامي الذي يعتمد مبدأ الشورى، قول الشافعي في الاختلاف: ""رأي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"، تعلّمنا هذه المقولة ألا يثور أحد منّا على الآخر لمجرد اختلاف رأيه، وتعلّمنا احترام الآراء التي تختلف عن آرائنا أيّا كانت، فلماذا لا يحترم كليجدار أوغلو قرار الشعب، وينسف به حتى قبل الإدلاء به؟.

في فقه الاختلاف توجد قاعدة ذهبية لدى علماء المسلمين فيقولون: "نجتمع فيما اتفقنا فيه، ويرحم بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه".

أما أن يخالف كليجدار أوغلو كل شيء لمجرد ان يكون مخالفا ومعارضا، فذلك الغباء بعينه الذي يقودنا إلى جمال الذكاء.

عن الكاتب

أسامة أسكه دلي

محرر أخبار لدى ترك برس


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس