سعيد الحاج - عربي 21

كتبت قبل أيام قراءة في مشروع النظام الرئاسي في تركيا الذي يتداوله البرلمان هذه الأيام بناء على طلب حزب العدالة والتنمية الحاكم، وتناولت فيه سياقات المشروع وأهم بنوده، إضافة لرؤية العدالة والتنمية وتحفظات المعارضة. وسأحاول اليوم أن أفصّل في فرص نجاح هذا المشروع تحت عدة عناوين حسب تسلسلها الزمني.

تنظم المادتان 93 و 94 من النظام الأساسي لمجلس الشعب التركي الكبير (البرلمان) آلية تداول التعديلات الدستورية وكيفية التصويت عليها، وتشترطان نقاش المواد على جولتين تفصل بينهما 48 ساعة على الأقل، على أن تناقش الجولة الثانية التعديلات المقترحة على المواد، ثم يُصوَّت على المشروع ككل (وعلى كل مادة على حدة) بالاقتراع السري.

كأي تعديل دستوري، يحتاج مشروع التحول للنظام الرئاسي إلى موافقة ثلثي أعضاء البرلمان (367 من أصل 550) لإقراره. بينما تكفي موافقة %60 منهم (330 نائبا) لتمريره عبر البرلمان إلى استفتاء شعبي، حيث سيكفي تصويت %50 + 1 من الناخبين لـِيـُقـَرَّ، أما إن فشل المشروع في الحصول على هذه النسبة فيسقط مباشرة.

وقد وافق البرلمان على المواد الـ18 التي يتكون منها مشروع العدالة والتنمية المقدم للبرلمان بموافقة 340 - 347 صوتا على كل مادة في الجولة الأولى التي انتهت في ساعة متأخرة من ليلة أمس/الأحد. ويتوقع أن تستمر مداولات الجولة الثانية ثلاثة أيام، ثم يعرض المشروع - حال إقراره من البرلمان - على الرئيس للموافقة (المتوقعة بطبيعة الحال) وتحديد موعد الاستفتاء الشعبي، والذي ينبغي أن ينظم بدوره بعد 60 يوما كحد أدنى وفق الدستور التركي ويتوقع أن يُجرى آخرَ آذار/مارس أو بداية نيسان/أبريل القادمين حسب كواليس العدالة والتنمية.

أولا، التوازنات داخل البرلمان. يتكون البرلمان التركي الحالي من 550 برلمانيا (سيرتفع العدد إلى 600 في حال أقِرَّ المشروع)، منهم 317 من العدالة والتنمية (الديمقراطي المحافظ، والحاكم) و133 من الشعب الجمهوري (الكمالي العلماني)، و59 من الشعوب الديمقراطي (القومي الكردي)، و39 من الحركة القومية (القومي التركي) إضافة إلى نائبَيْن مستقلين بعد استقالتهما من حزبهما. وفق هذه التوازنات، لا يستطيع العدالة والتنمية تنفيذ الأمر لوحده، فضلا عن أن الدساتير من ناحية المبدأ والفلسفة عقد اجتماعي يستوجب ويشترط الحد الأكبر الممكن من التوافق السياسي والحزبي والمجتمعي.

وهنا كان خيار العدالة والتنمية أن يتوافق مع حزب الحركة القومية الذي أبدى تجاوبا نحو المشروع بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة في تموز/يوليو الفائت، بعد أن كان من المنتظر تحقيق ذلك بالشراكة مع الشعوب الديمقراطي خلال السنوات الماضية كجزء من حل المشكلة الكردية في تركيا.

مرور المواد في الجولة الأولى يشير إلى التزام حزب الحركة القومية بوعده وتوحد حزب العدالة والتنمية خلف المشروع حتى الآن، خلافا لبعض التحليلات التي توقعت غير ذلك من كليهما. لكن الأمر ما زال فيه إمكانية للتراجع أو الاختلاف في الجولة الثانية خلال التصويت على المواد أو حتى على المشروع ككل، وهو سيناريو قائم نظريا لكن احتمالاته العملية ضئيلة جدا جدا.   

ثانيا، المحكمة الدستورية. في حال إقرار المشروع عبر البرلمان، من المتوقع لجوء حزب الشعب الجمهوري المعارض إلى المحكمة الدستورية للطعن في دستورية المشروع و/أو سلامة التصويت عليه، دافعا بإحدى ثلاث مسوغات: الصلاحيات الكبيرة الممنوحة للرئيس، و/أو انتهاك سرية التصويت، و/أو نقاش المشروع والتصويت عليه خلال فرض حالة الطوارئ في البلاد. وقد بدأ بعض نواب الحزب فعلا في التلميح لهذا الخيار الذي طالما استعان به أكبر أحزاب المعارضة، بل لفتَ الأنظارَ دأبُ نواب الحزب على تصوير عملية التصويت بهواتفهم النقالة وكاميرات احترافية لإثبات أنها لم تكن سرّية كما ينبغي. ولعله من الصعب الجزم بالقرار الذي ستتخذه المحكمة الدستورية حال رفع الأمر إليها، لكن يمكن القول إن حكمها بعدم دستورية مشروع القرار وخطوات إقراره غير مرجح ولا يحظى بفرص كبيرة أيضا.  

ثالثا، الاستفتاء الشعبي. في حال أقر المشروع من البرلمان ووافق عليه رئيس الجمهورية كما هو متوقع فضلا عن عدم إلغائه من قبل المحكمة الدستورية، سيعرض التعديل الدستوري على الاستفتاء الشعبي ويكفي لإقراره نسبة النصف زائد ناخب واحد كما سبق ذكره.

ورغم أن الحسابات المجردة تعطي إيحاء بسهولة و"ضمان" مرور المشروع عبر الاستفتاء باعتبار أن نسبة ناخبي الحزبين مجتمعين تتخطى الـ %60 (49.5% للعدالة والتنمية و %11.9 للحركة القومية في آخر انتخابات برلمانية)، إلا أن الأمر أعقد كثيرا من ذلك، خصوصا أن مواد التعديل الدستوري لم تنل حقها حتى الآن من النقاش المجتمعي، كما أن أنصار الحركة القومية ليسوا مضموني القرار بهذا الاتجاه.

ضمن استطلاعات الرأي المجراة حتى الآن حول الموضوع، وجدت شركة (ORC) للاستطلاع في شهر تشرين الأول/نوفمبر الفائت نسبة الموافقة في الاستفتاء %55.9، بينما حددت شركة (METROPOL) نسبة الرافضين في استفتائها خلال شهر تشرين الثاني/نوفمبر الفائت بـ %51. شركة (A&G) أجرت استطلاعا في نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 2016 وجد أن نسبة التأييد بلغت %52.7 في مقابل %47.6 سيصوتون بالرفض، بينما قالت شركة (GEZ?C?) المحسوبة على المعارضة إن نسبة الرافضين بلغت %58 في كانون الأول/ديسمبر الماضي (دون أن تذكر نسبة المؤيدين!!).

وإذا كان من المفيد التذكير بأن شركات استطلاع الرأي التركي ليست دقيقة في توقعاتها ومعظمها غير مهني في عمله، فإن الأهم أن نقول إن رأي الناخبين سيطرأ عليه تغيرات كثيرة حتى يوم الاستطلاع. سيتأثر ذلك بشكل واضح بدعاية الأحزاب المختلفة ومن خلفهم أردوغان للأمر حيث سيركز الحزب الحاكم على فوائد المشروع لاستقرار تركيا وتمتين جبهتها الداخلية في مواجهة الأخطار والضغوط الداخلية والخارجية، بينما سيحذّر الشعب الجمهوري والشعوب الديمقراطي من التحول إلى "دكتاتورية دستورية". كما سيتأثر رأي الناخب بلا شك بالأوضاع الأمنية والاقتصادية المتراجعة في البلاد بما يصعّب جدا من إمكانية التوقع بشكل دقيق بنيتة الاستفتاء منذ الآن، وإن كانت مختلف المؤشرات تشير إلى الموافقة عليه وفق المعطيات الحالية. 

رابعا، تداعيات بعيدة المدى. يتعلق كل ما سبق بالمسار الدستوري والقانوني لمشروع تحويل نظام البلاد من جمهوري إلى رئاسي، بيد أن أغلب الصراعات في بلدان لا تحسم بالدستور والقانون وحدهما للأسف. من غير المستبعد لجوء معارضي هذا المشروع - سيما حزب الشعب الجمهوري - إلى الاحتجاجات الشعبية والمظاهرات والإضرابات وهي خطوة قد تكون باهظة الثمن وغير محسوبة العواقب في ظل حديث رئيسه كمال كليتشدار أوغلو قبل أسابيع بأن "تغيير النظام بهذه الطريقة لن يمر بغير دماء"، وتحذير/تهديد بعض نوابه من "نشوب حرب أهلية" بسببه.

لم تعد تركيا منذ فترة النموذج الذي يبشر به الغرب ويروج له، وقرائن الضغوط الخارجية واستهداف تركيا عموما وأردوغان خاصة لا تخطئه عين المتابع، ولعل المحاولة الانقلابية في تموز/يوليو الفائت خير دليل على المدى الذي وصل إليه "الغضب" الخارجي على الشخص والحزب والتجربة. لذا، قد يفتح التحول إلى النظام الرئاسي بهذه الطريقة أبواب ضغوط جديدة ومتزايدة على تركيا من "حلفائها" الغربيين على طرفي الأطلسي، سيما إذا ما رافق ذلك احتجاجات واسعة من قبل حزبي الشعب الجمهوري والشعوب الديمقراطي، ولعل في تجربة بعض البلدان مع الدساتير غير التوافقية أو التي رُوِّجَ بأنها غير توافقية درس بليغ لما يمكن أن تصل إليه الأمور من مسارات ونتائج لا تحمد عقباها.

ولعله من المهم الإشارة هنا إلى أن فشل البرلمان في إقرار المشروع أو سقوط الأخير في الاستفتاء سيدفع البلاد إلى انتخابات برلمانية مبكرة بنسبة كبيرة جدا. فالحكومة ستتهم المعارضة بـ"تعطيل عمل البرلمان"، والأخيرة ستعتبر أن عدم إقرار المشروع بمثابة استفتاء على (تدني) شعبية العدالة والتنمية دون أن تملك هي بذاتها الأغلبية المطلوبة لترسيخ النظام البرلماني وإلزام الرئيس بمنصب فخري رمزي، بمعنى بقاء التعارضات والإشكالات البنيوية في الدستور قائمة وبحاجة لحل ما لاحقا. ومن البديهي أن سيناريو الانتخابات البرلمانية المبكرة في ظل تزامن تحديات كثيرة وكبيرة داخل تركيا وخارجها وخصوصا الأزمة الاقتصادية والعمليات الأمنية يجعل منه بابا مفتوحا على المجهول، سيما وأن علاقات تركيا الخارجية يشوبها توتر كبير في الشهور الأخيرة. 

بكل الأحوال، فقد دخلت تركيا مسارا لن تتراجع عنه، ويبدو أن حاجة البلاد للخروج من المآزق الدستورية والسياسية الحالية لا تترك للعدالة والتنمية ترف التفكير ببعض "التفاصيل" على هامش الموضوع. وبالنظر إلى المسار الدستوري والعوامل المصاحبة له والمؤثرة عليه، يبدو لي أن إدارة حملة ناجحة للتعريف بالمشروع وفوائده من وجهة نظر الحزب للشعب بمختلف توجهاته ومؤسساته وأطيافه وأماكن توزعه الجغرافي، إضافة إلى ضبط الحالة الأمنية وفرملة الأزمة الاقتصادية، ستكون عوامل كفيلة بإيصال البلاد للحظة الاستفتاء في ظل أفضل الشروط والظروف المتاحة، فضلا عن أنها تقلل إلى حد بعيد من مخاطر ما بعد الاستفتاء بغض النظر عن نتيجته.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس