ترك برس

نشرت مجلة ناشيونال إنترست الأمريكية مقالا للباحث الصربي فوك فوكسانوفيتش، أستاذ العلاقات الدولية في كلية لندن للاقتصاد، والدبلوماسي السابق في وزارة الخارجية الصربية، تناول فيه نجاح الدبلوماسية التركية في دول البلقان في عهد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، تعليقا على زيارته الأخيرة لصربيا في الأسبوع الماضي.

وكتب فوكسانوفيتش أن زيارة أردوغان صربيا، على الرغم من أنها كانت ثنائية في المقام الأول، فإنها أظهرت أيضا أن تركيا أصبحت من جديد لاعبا رئيسيا في البلقان. وبالنظر إلى الحالة المتعثرة للعلاقات الدولية التركية، فإن البلقان هي المكان الوحيد الذي تنجح فيه السياسة الخارجية التركية.

سياسة تركيا تجاه البلقان بعد تأسيس الجمهورية

ورأى المحلل الصربي أن العلاقات القوية بين تركيا والبلقان قد لا تكون تحولا جذريا، ومع ذلك، فإنها تمثل انحرافا كبيرا عما يقرب من قرن من السياسة الخارجية التركية. فبعد هزيمة الدولة العثمانية في حروب البلقان، لم تعد البلقان جزءا مهما استراتيجيا للدبلوماسية التركية، وتوقفت تركيا عن محاولة أن تكون قوة رئيسية في ولاياتها العثمانية السابقة. وظل هذا هو الحال طيلة الحرب الباردة، مع تقليص سياسة تركيا تجاه البلقان إلى الدبلوماسية الثنائية. ولم تهتم تركيا بهذه المنطقة إلا في سياق مواجهة التهديدات السوفياتية المحتملة، كما تجلى في اتفاق البلقان بين تركيا واليونان ويوغوسلافيا عام 1950.

على أن انهيار الاتحاد السوفييتي وظهور البلدان الناطقة بالتركية في آسيا الوسطى، إلى جانب تفكك يوغوسلافيا والحروب التي أعقبت ذلك، أعاد إحياء فكرة تركيا كقوة إقليمية في أوراسيا. وأثار الدعم الذي تقدمه تركيا للمسلمين والألبان البوسنيين في حرب البوسنة وكوسوفو المخاوف في عواصم البلقان، ولا سيما بلغراد وأثينا، من أن التهديد الذي نسي طويلا قد ظهر من جديد.

وخلال التسعينيات كان يرمز إلى هذا الخوف بمفهوم "القوس الإسلامي"، وهو مصطلح فني يستخدم لوصف سلسلة الأراضي التي يسكنها مسلمو البلقان. وهذه الأراضي تربط بين تركيا وبلغاريا ومقدونيا وألبانيا ومقاطعة سنجق الصربية التي يسكنها المسلمون وكوسوفو والبوسنة والهرسك.

وقد فسر البعض الدعم التركي لمسلمي البلقان على أنه محاولة لعزل اليونان عن امتدادها في البلقان وقطع الطريق البري  بلغراد - أثينا.

سياسة تركيا تجاه البلقان في ظل العدالة والتنمية

اتخذت سياسة تركيا في البلقان شكلا ملموسا ومتماسكا تحت إشراف العالم السياسي أحمد داود أوغلو الذي عمل وزيرا للخارجية ثم رئيسا للوزراء. وفي كتابه "العمق الاستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية" قال داود أوغلو إن تركيا يجب أن تصبح مرة أخرى قوة رئيسية في أوراسيا. وستفعل ذلك من خلال استعادة نفوذها في المقاطعات العثمانية السابقة في البلاد، بما في ذلك البلقان، من خلال سياسة خارجية نشطة.

ويلفت المحلل الصربي إلى أن الكثيرين في الغرب غاب عنهم الاهتمام الخاص الذي أولاه داود أوغلو للبلقان في كتابه. فقد أشار إليها بوصفها المنطقة التي بدأ فيها انهيار الإمبراطورية العثمانية. وأكد أنه من خلال الوجود التركي في البلقان يمكن لتركيا أن تؤكد نفسها كقوة أوروبية. ورأى داود أوغلو أيضا أنه بدون منطقة نفوذ ومعيار دفاعي في البلقان، لن تتمكن تركيا من ممارسة نفوذها بفعالية في الشرق الأوسط أو منطقة أوراسيا الأوسع. ولتحقيق هذه الغايات المعقدة، كتب أن تركيا بحاجة إلى تشكيل تحالفات وتعزيز المجتمعات الإسلامية في جميع أنحاء البلقان.

وقد خدمت الأزمة المالية  في عام 2008 تركيا في تحقيق هذا الغرض، حيث لم يُعانِ اقتصادُها معاناةً شديدةً مثل اقتصادات الدول الغربية الكبرى وغيرها من القوى الخارجية، ولذلك فقد ملأت هذا الفراغ بالدبلوماسية والدعم الاقتصادي. أصبحت أنقرة حازمة تماما في تعزيز دورها الجديد في البلقان وعلاقتها الخاصة مع مسلمي البلقان.

وعملت تركيا على مبادرات دبلوماسية أخرى في البلقان، وتوسطت بين المسلمين والصرب وأطلقت آلية المصالحة الثلاثية بين تركيا وصربيا والبوسنة والهرسك. كما أقامت أنقرة شراكة مهمة مع مقدونيا، وهي لم تقدم على ذلك لتقويض اليونان، ولكن لأن تركيا ترى موقع مقدونيا في قلب البلقان الجغرافي، كما أنها تحد صربيا وألبانيا وبلغاريا واليونان.

ورأى فوكسانوفيتش أن منطقة البلقان هي المكان الوحيد الذي حققت فيه السياسة الخارجية التركية نجاحا، ففي آسيا الوسطى والقوقاز، واجهت تركيا مقاومة روسية. وفي الشرق الأوسط يسود العداء والشك علاقة تركيا مع جيرانها، الأمر الذي أضر تماما بما وصفه داود أوغلو أصلا بأنه النهج التركي الجديد "صفر مشاكل" مع جيرانها.

وتابع بالقول إنه منذ ظهور أزمة اللاجئين في عام 2015، اكتسبت تركيا زخما إضافيا في البلقان بسبب قدرتها على السيطرة على تدفق المهاجرين الذي يهدد دول البلقان. وحاولت تركيا أيضا كسب قلوب المسلمين وعقولهم في هذه الدول، وهو ما يمكن أن نراه في تمويلها لمسجد نمازجاه في العاصمة الألبانية تيرانا الذي سيكون أكبر مسجد في البلقان. وعلاوة على ذلك فإن تركيا أردوغان تطرح نفسها أيضا نموذجا سياسيا لدول البلقان التي تجد نفسها خارج المؤسسات المتعددة الأطراف في الغرب وتفتقر إلى أبطال في الغرب.

ولم يمر هذا الوجود التركي المتنامي دون أن يثير ملاحظة الاتحاد الأوروبي. ومع ازدياد الأزمة في العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، كثيرا ما تتهم تركيا، من قبل دول مثل روسيا، بمحاولة كبح نفوذ الاتحاد الأوروبي في البلقان. بل إن البعض يدعي أن تركيا قد تذهب إلى حد دعم توحيد جميع الألبان في دولة ألبانية واحدة.

ويلفت الباحث الصربي إلى أنه رغم النجاحات التي حققتها تركيا، فإنها تواجه قيودا حقيقية في محاولاتها لتحويل البلقان إلى منطقة ذات تأثير استراتيجي. أول هذه القيود أن معظم الدول المسيحية في البلقان ترى تركيا وسيطا متحيزا  للمسلمين البلقان. ونظرا لإرث الدولة العثمانية، يجب على تركيا، كما يقول، أن تسير على خط رفيع بين دعم المسلمين البلقان وتنفير المسيحيين البلقان.

ثاني هذه القيود أن جوار تركيا الشرق أوسطي "المزعج" سيكون دائما أولوية لها مقارنة بالبلقان، وبالتالي سيستنزف الكثير من جهودها ومواردها. وثالثا ستكون جهود تركيا مهددة بتعزيز العلاقات الدبلوماسية بين صربيا وبلغاريا واليونان. وستحاول هذه البلدان معا التصدي للنفوذ الإقليمي التركي. والأهم من ذلك أن الوجود الاقتصادي التركي في المنطقة ضئيل بالمقارنة مع وجود الاتحاد الأوروبي.

ورأى فوكسانوفيتش أن الطريقة الأكثر فعالية لتركيا لمواصلة إعادة الاندماج الناجح في البلقان تتمثل في مواصلة التعاون العملي القائم على المصالح مع عواصم البلقان. ويجب أن يتم ذلك دون التذرع بالإرث العثماني، الذي يضع ضغطا عاطفيا شديدا على البلدان التي لديها ذكريات طويلة مع الوجود العثماني.

وخلص الباحث الصربي إلى أن تركيا ودول البلقان إذا نجحت في عمل ذلك، فإنها قد تخلق نموذجا ناجحا جدا للتعاون الإقليمي، مشيرا إلى أن الوجود التركي في البلقان لا يحتاج إلى أن ينظر إليه على أنه سلبي. صحيح أن تركيا أقوى بكثير من جيرانها في منطقة البلقان، ومن الطبيعي أن ترغب أنقرة في ترجمة هذه القوة إلى نفوذ. وهذا هو ما تتوقعه عواصم البلقان  التي لا تمتلك كثيرا من الخيارات بعد أن تخلى عنها الاتحاد الأوروبي.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!