ترك برس

في يوم السبت الذي وافق الرابع عشر من نيسان/ أبريل الماضي، وفي وقت الغداء بالتحديد، في حي سوق بشكتاش الصاخب، ومع حشود الشباب التي تملأ الشوارع الضيقة في معظم الأحيان، يقف طابورٌ من الناس أسفل شارع "مومجو بقّال" Mumcu Bakkal المخصص للمشاة فقط والذي تصطف على جانبيه محلاتٌ صغيرة، يتوقون للوصول إلى واحدٍ من أفضل أماكن صنع دونير (الشاورما التركية) في إسطنبول.

بالنسبة للعديد من أولئك الذين ينتظرون في الصف، من المستحيل تجاهل المبنى المغطى بالسقالات عبر الطريق. على الرغم من أن السقالات تحجب معظم المبنى التاريخي، إلا أنه لا يزال من الممكن وضع الشرائط الزرقاء المميزة للمتجر الذي كان أحد أكثر المطاعم المحبوبة في إسطنبول "متجر باندوز كايماك" Pando’s kaymak لبيع القشطة أو بالتركية "كايماك".

في عام 2014، قام مالكو المبنى، الذي عمل فيه بانديلّي شيستاكوف (المعروف بالعمّ باندو بين زبائنه) مع عائلته التي اعتادت على تقديم وجبات الإفطار التي تعتمد على الكايماك الشهير (القشطة أو الكريمة المخثّرة التركية)، بإنهاء عمل الرجل المسن في المبنى حينما قاموا بإقالته من المحل، الذي افتتحه جدُّه سنة 1895، منهيًا ما يقرب المئة وعشرين عامًا من إرث عائلته.

لم تكن السنوات التي مرت منذ ذلك الحين لطيفةً مع العم باندو، الذي توفي في منتصف الشهر الماضي عن عمرٍ يناهز ستة وتسعين عامًا بعد معاناةٍ مع الفشل الكلوي. ومع انتهاء رحلة باندو، فقدت ثقافة "إسناف" (مطاعم التجار الصغيرة) والمهددة بالانقراض أحد أبرز نجومها، في حين فقدت المدينة رابطًا وثيقًا مع الماضي الذي قد لا يقطن طويلًا في أعماق ذاكرة سكانها.

ينحدر باندو من أسرةٍ بلغارية هاجرت إلى إسطنبول من مدينة بيتولا المقدونية في الجنوب، والتي كانت تُعرف في الإمبراطورية العثمانية آنذاك باسم ماناستير. إن جذور المجتمع الذي ينتمي إليه باندو معقدةٌ وتعود للماضي العثماني، حيث كانت الهويات الوطنية أقل تعقيدًا ولم تكن مقيدةً بالحدود.

يقول المؤرخ ألكسندر شوبوف، الذي درس تاريخ الزراعة الحضرية في إسطنبول: "أسلافهم كانوا مهاجرين، واللغة التي يتحدثون بها أقرب إلى المقدونية المعاصرة التي تم تقنينها في السنوات الأخيرة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية. هذا المجتمع في إسطنبول له هوية مختلفة عن الهويات الوطنية البلغارية والمقدونية".

استقر الآلاف من أبناء جلدة باندو في إسطنبول في القرن التاسع عشر، حيث كانوا يبحثون عن فرصٍ اقتصادية أفضل في عاصمة الإمبراطورية العثمانية. أقل من 500 شخصٍ منهم لا يزال في إسطنبول حتى اليوم، وذلك نتيجةً لهجرة أعداد كبيرة بعد إنشاء الدولة التركية الحديثة سنة 1923. ومنذ مجيئهم إلى المدينة، قام البلغاريون المقدونيون الذين جاؤوا إلى إسطنبول خلال الفترة العثمانية بتولّي عدد من الصفقات، ربما كان أبرزها إنتاج الألبان.

يقول الكاتب المختص بالأغذية آيلين أوني تان: "حظي إسناف الذي عمل به أشخاصٌ من أصل بلغاري بالإشادة بسبب منتجات الألبان التي وثق الجميع بها بسبب صدقهم". وقد اشتهرت عائلة باندو بتقديم منتجات الألبان لمصطفى كمال أتاتورك مؤسس الدولة التركية الحديثة، وذلك لدى إقامته في قصر دولما بهتشه، المقر السابق لحكومة الإمبراطورية العثمانية بالقرب من بيشكتاش. وقد ذكر باندو بنفسه قبل وفاته عبوره ممرات القصر مع أتاتورك عندما كان صبيًّا صغيرًا.

تُعرف الـ"كايماك" على أنها ملكة الفطور التركي، ومن الممكن استخدامها في صناعة عشرات الأطباق الشهية، وتقدم على الفطور بجانب الأطباق الصغيرة من الجبن والزيتون وأطباق البيض والمربى وغيرها من الأشياء التي غالبًا لا تترك مساحةً على الطاولة. يمتاز كايماك بقوامه الكريميّ اللامع مع لمسة من الحلاوة، ويتفوق لمعانه على أفضل أنواع العسل التي يقترن بها عادة. يصرّ هواة هذه الكريمة على أن الأفضل يمكن صنعه من حليب جواميس الماء.

يقول إلهان يالتشين، الذي يدير متجر البودينغ "Göreme Muhallebicisi" الذي افتتحه جده في حي "كورتولوش" سنة 1965: "ينتج جاموس الماء 15 لترًا من الحليب في اليوم، في حين تنتج الأبقار 40. من أجل ذلك يعتبر حليبها أكثر قيمة".

وكما فعل باندو طوال حياته المهنية، لا يبيع يالتشين إلا كايماك المصنوعة من جواميس الماء، فبالمقارنة مع حليب البقر، يعد حليب جاموس الماء غنيًّا بالمحتوى المعدني، ويوصى به لاحتوائه على مستويات عاليه من "بي 12" بالإضافة للبروتين.

وبحسب سومر سيفري أوغلو، فإن باندو كان واحدًا من الحرفيين القليلين في إسطنبول الذين ما زالوا يستخدمون حليب الجاموس لصنع كايماك يوميًّا، والتي تتصف بأنها أكثر بياضًا وسمكًا ودسمًا من تلك التي تصنع من حليب البقر. يعد سومر طاه من مواليد إسطنبول ويدير حاليًّا العديد من المطاعم الناجحة في أستراليا. ويعمل سومر على إحياء ذكرى باندو من خلال استخدام اللون الأزرق الذي استخدمه باندو في متجره في بيشكتاش.

قدّم باندو إلى جانب كايماك العديد من الخيارات اللذيذة، كالعسل مع الخبز المقرمش، أو مينيمين (البيض المخفوق) مع كوبٍ من الحليب الساخن، وغيرها من الخيارات. وقد كانت جدران المتجر الذي افتتح سنة 1895 مغطاةً بصور أجداد باندو ورسوماتٍ لقطيع جواميس الماء احتفظت بها الأسرة على الدوام.

 

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!