محمد كامل أبو فول - نون بوست

تتجه أنظار أحزاب اليسار دائمًا إلى طبقة العمال والأيدي العاملة مستعينيين بالأيدولوجيا التي يتبنونها في أن يتمتع الجميع عمّالاً ومسؤولين بنفس الحقوق وأن لا ينقص من ذلك شيء فيما يخص العمّال، إن هذا الامر جيد وهو محط تقدير في هذه الأحزاب اليسارية إذا ما تم العمل عليها بشكل فعلي، ولكن تبني هذه الأفكار يجعل من هذه الأحزاب تُعيد النظر في تحالفاتها بشكل دائم لتحقيق هذه الأفكار، في اليونان كان ائتلاف "سيريزا" اليساري الذي يتزعمه أليكسيس تسيبراس الذي عُيّن مؤخرًا رئيسًا للوزراء في اليونان بعد فوز حزبه في الانتخابات البرلمانية أحد هذه الأحزاب والائتلافات اليسارية التي تنادي بمصالح العمّال وتتخذه السبيل إلى تحقيق أجنداتهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

لقد كان ائتلاف "سيريزا" معارضًا لتوجهات حكومة اليونان السابقة خاصة فيما يتعلق بتوجهاتها الاقتصادية وسياسة التقشف التي فُرضت على البلاد نتيجة تراكم الديون التي وصلت إلى 175% من إجمالي الناتج الداخلي  للبلاد؛ الأمر الذي أدّى إلى ثقة الناخب اليوناني بهذا الائتلاف، خصوصًا وأنه يتبنى خطاب إلغاء سياسة التقشف وإعادة جدولة ديون البلاد.

لقد عارض أيضًا هذا الائتلاف في السابق تقارب الحكومة اليونانية مع تركيا، ووصف الحزب لقاء أنطونيس ساماراس رئيس الوزراء اليوناني بنظيره التركي آنذاك رجب طيب أردوغان، خلال اجتماع مجلس التعاون الإستراتيجي التركي اليوناني رفيع المستوى، بأن هذا اللقاء يأتي دون وجود أرضية مشتركة واضحة للتعاون بين البلدين سواء في المجال الاقتصادي أو السياحي.

لم تدم العلاقات اليونانية التركية على هذا الانسجام، خصوصًا مع تزايد ضغط سياسة التقشف على البلاد وتوقف المفاوضات بشأن توحيد جزيرة قبرص، وظهور التنقيب عن الهيدروكربونات كمصدر للطاقة في البحر الأبيض المتوسط واعتبار تركيا بأن هذا حق لها، واعتبار اليونان بأن هذا انتقاص من سيادتها، وبدء ظهور التحالفات الغقليمية فيما يخص هذا الأمر.

لقد شعرت أنقرة أيضًا بالقلق بأن العلاقات اليونانية التركية في طريقها إلى الانسداد خصوصًا بعد اعتقادها بأن اليونان تسعى إلى الانضمام لحلف متوسطي جديد يضمها وقبرص ومصر في سبيل الحصول على موارد الطاقة في البحر المتوسط؛ الأمر الذي دعا رئيس الوزراء التركي الحالي الدكتور أحمد داوود أوغلو ووزير خارجيته إلى القول إنه يمكن الوصول إلى تفاهمات مع أثينا فيما يتعلق بالمشكلات بين البلدين.

وعودة إلى الوراء قليلاً، فإن العلاقات بين اليونان وتركيا تشهد مدًا وجذرًا بين الفينة والأخرى بناء على تقدم المفاوضات حول قبرص؛ الأمر الذي يجعل بعض الأنظار متجهة نحو تركيا فيما يتعلق الآن بعلاقتها مع اليونان خصوصًا بعد تولية أقصى اليسار الحكم هناك، ومشكلات اليونان الداخلية التي يمكن أن تجعل وجهة صناع القرار هناك إلى تركيا.

الآن وبعد تولّي تسيبراس رئاسة الوزراء في اليونان، وإعلانه بأنه ضد سياسة التقشف التي تعصف بالبلاد بإملاءات من الدول الأوروبية المختلفة الدائنة، ورغبته بأن يتم فتح ملف ديون اليونان من جديد وإعادة جدولتها أو الوصول إلى إلغاء بعض هذه الديون كما حصل سابقًا مع ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، واستباق الدول الدائنة هذه التصريحات بأنهم لن يقوموا بفتح ملف الديون السابقة، يجعل مهمة الحكومة الجديدة صعبة في الإيفاء بما وعدت به ناخبيها.

هذا الأمر ربما يحمّس صنّاع القرار في اليونان إلى التوجه إلى تركيا وعلى أرضية واضحة من التفاهمات كما كان يريد الحزب، خصوصًا وأن هناك مصلحة مشتركة بين البلدين، فتركيا ترغب في أن تلعب اليونان دورًا بارزًا في انضمامها إلى الاتحاد الإوروبي، كما أن الحكومة الجديدة في اليونان ترغب في الاستفادة من تجربة تركيا الحالية خلال 13 عامًا؛ وهو ما جعل تسيبراس يقول لداوود أوغلو في لقائهما قبل فوزه في الانتخابات الأخيرة "آراؤنا تختلف عن آراء حزب العدالة والتنمية، ولكننا نقدر ما تقومون به في بلدكم منذ 13 عامًا، ونحن أيضًا نريد أن نقوم به".

من جانب آخر فإنه من الملاحظ أن تصريحات القادة اليونانيين الحاليين يريدون التفرغ إلى مواجهة ديون الدولة وتحدياتها، وبالتالي فإنهم سيكونوا معنيين بأن يخففوا من المشكلات الأخرى التي قد تطرأ مع دول الجوار ومن بينها تركيا، هذا يعني أننا يمكن أن نرى عودة للمفاوضات بين الجانبين بشأن جزيرة قبرص وهو ما يمكن التنبؤ به بعد زيارة رئيس الحكومة الجديد إلى قبرص كأول جولة خارجية له للتباحث حول منطقة اليورو والأزمة الأوكرانية وجهود حل مشكلة تقسيم الجزيرة  وهو ما يتقاطع مع جهود تركيا أيضًا.

إن سعي الحكومة الجديدة إلى فتح موضوع الديون مع الدول الأوروبية وتصريحات تلك الدول بأن هذا لن يكون، من شأنه أن يوجِد أزمة في البلاد، وفتح ملف عضوية اليونان نفسها في الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي سينعكس سلبًا على اليونان ويلقي بظلال خطيرة على الداخل اليوناني، وحينها ستكون تركيا ذات الوجود الإقليمي والدولي القوي وجهة القيادة اليونانية حينها، وبالتالي سيسعى اليونانيون إلى تعزيز علاقات البلدين السياحية والاقتصادية.

أما من جانب تركيا، فإنها تعي أيضًا ضرورة التقارب مع اليونانيين الحاليين، فتحالف اليونان مع دول أخرى غير تركيا يهدد مصالح تركيا فيما يتعلق بمصادر الطاقة في البحر المتوسط، وبالتالي فإن تلطيف العلاقات مع اليونان من أولويات حكومة داوود أوغلو، وهو ما يمكن معرفته بوضوح من خلال تصريحات وزير الخارجية التركي الذي رحب بفوز حزب سيريزا والذي اعتبره خطوة للأمام لحل المشكلات القائمة في بحر ايجة والبدء بالتقيب المشترك عن مصادر الطاقة في البحر المتوسط؛ وهو ما جعل رئيس الوزراء التركي يوجه دعوة إلى نظيره اليوناني الجديد لزيارة أنقرة.

ومما يعزز التقارب بين البلدين وجود سياسة متقاربة خارجية لكليهما تتعلق بالقضية الفلسطينية، فتركيا تدعو إلى تمكين الفلسطينيين من إقامة دولتهم، وتدين العنف الذي تمارسه إسرائيل على الفلسطينيين، كما أدانت الحرب التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة في صيف 2014، وهو ما أدانه أيضًا حزب الحكومة الجديدة في اليونان، والذي يدعو أيضًا إلى تحقيق السلام العادل، وإعلاء الصوت في التضامن مع الشعب الفلسطيني، كل ذلك من شأنه أن يجعل هناك نقاطًا مشتركة بين الجانبين في تبني سياسة واضحة تجاه القضية الفلسطينية.

لاتزال حكومة اليونان الجديدة في أيامها الأولى، والملفات الملقاة على طاولتها كبيرة، وبالتالي فإنها تحتاج إلى إعادة ترتيب التحالفات المختلفة، وهو ما يمكن أن يكون في صالح تركيا.

فلننتظر إذن ونرى.

عن الكاتب

محمد كامل أبو فول

فلسطيني، حاصل على ماجستير هندسة الاتصالات، أهتم بقصص حياة الناجحين والسياسيين ومهتم بالتجربة التركية وأكتب عنها.


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس