صوفيا خوجاباشي - خاص ترك برس

استشهد الرئيس الشرعي الوحيد، ورمز الديمقراطية العربية منذ تشكلّ الدولة القومية الحديثة في بلاد العرب، وحتى اليوم، بل وأكاد أجزم أن لا رئيسَ بعده سيأتي على عالمنا العربي بالشرعية والديمقراطية ذاتها التي أتى بها الدكتور محمد مرسي إلى قصر الاتحادية في قاهرة المعز في تاريخها، ومقهورة الإرادة، وسليبة الحرية في حاضرها ومستقبلها القريب...

مات الرئيس المظلوم في محبسه، بعد أن طعنه المقربون والبعيدون، الإسلاميون والعلمانيون، البسطاء والمثقفون... مات معنويًا قبل أن يموت جسديًا، عندما حمل روحه قربانًا على مذبح الديمقراطية، واسترضى الحبس الانفرادي لست سنوات متتابعات، معزولًا عن العالم، في قفص الاتهام وما هو بمتهم، خلف لوح من زجاج يحاكم دون أدنى حقوق مستحقة لسجين...

قتلة محمد مرسي معروفون للعالم أجمع، ثلة من المتآمرين... خبثٌ متناهٍ مسكوبٌ على ورقة مخطط دنيء، منذ اليوم الأول لانتصار ثورة يناير، وتحكم العسكر بمفاصل الدولة العميقة... بأموال الجار الإقليمي، والضوء الأخضر من العدو الإسرائيلي، ومصادقة العابث الأمريكي...

إن خطأ مرسي الوحيد الذي اقترفه لو كان قد اقترف خطأً، أنه لم يكن سلطويًا محتالًا كالسيسي أو مبارك أو جمال عبد الناصر، فلم يجثم على صدور الشعب بقوة الحديد وحرارة النار، ولم يكن عميلًا يسترضي حاخامات تل أبيب، أو اللوبي الصهيوني في واشنطن، ولربما فتح فضاء حرية غير مشروط في غير موضعه ولا زمانه المناسبين، دون ردع لشعب يرى بعضه في الردع قوة ومهابة رئاسية، ويستضعف كل ديمقراطي يفتح أبوابه مشرعة للانتقاد دون حسيب ولا رقيب، ليس ضعفًا منه ولا خطيئةً أو ذنبًا... بل امتثالًا أخلاقيًا لمبادئ الثورة التي قامت لتوفير مناخ ديمقراطي قائم على حرية التعبير والمقال... لتقف الآلة الإعلامية موقف المجرم على خط واحد مع الآلة العسكرية والبطش الأمني والإجرام الاستخباراتي، وتتقاسم الخطيئة بالمقدار نفسه... خطيئة اندثار أمل الشعب المصري، وآمال شعوب أخرى كانت ترى في التجربة المصرية خير مثال يحتذى به... لتصير اليوم شر مثال يهربون منه.

الحقيقة أن وفاة الرئيس مرسي التي هزت أحرار العالم، قد أسقطت في الوقت ذاته ورقة التوت عما تبقى من الذائقة الأخلاقية والفكرية لبعض المثقفين العرب. احتيال فج على التاريخ وتزوير صريح للحقيقة نرصده في مقال "فرصة جديدة" للكاتب السوري ميشيل كيلو، بل وتَفَوّهٌ أعمى بدعاية الأنظمة المستبدة... إرضاءً ربما لأيديولوجية فكرية يمتلك بعض حامليها من التعصب ضد الآخر، مقدارًا يفوق ادعاءهم النضال لتخليص العالم من العنصرية والسلطوية الدينية مثلًا. فلم تسعفهم "ادعاءاتهم" أمام انفجار بركان غضبهم بل وكرههم لرئيس منتخب يخالفهم في توجهاته الفكرية أو الإيديولوجية... فراحت التهم ترمى جزافًا ضده حيًا كان أم ميتًا... حتى ولو كان ثمن ذلك خروجهم من لبوسهم الثوري، وارتداءهم لبوس الطغمة الحاكمة من بعث وعسكر وأمراء مرتهنين ومجرمين متآمرين جمع بعضهم البعض، حقد قديم على من يقاسمهم الساحة السياسية والفكرية، وتكرار مقيت لدعاية عفا عليها الزمن، في ظل حاجة ملحة فكرية وثقافية وإيديولوجية وثورية، إلى تجديد الخطاب السياسي والفكري للجماعات الفكرية والسياسية برمتها دون استثناء، أو نسفها جميعها وإعادة بنائها من جديد.

أتى مقال السيد ميشيل كيلو ضعيف الفكرة والمضمون، فلجأ إلى الربط بين وفاة الدكتور محمد مرسي والفرصة التي أتاحتها مناسبة الوفاة أمام جماعة الإخوان المسلمين لإعادة النظر بموروثهم الفكري، والإيمان باستحالة قيام نظام ديني، من خلال كيل الاتهامات جزافًا لفترة حكم مرسي، محملا إياه مسؤولية الانقلاب على الثورة من خلال أسلمتها أو أخونتها، وذلك في معرض انتقاده الشامل لجماعة الإخوان المسلمين، انطلاقًا من مسلماتٍ مسبقةٍ في رأسه، وهو ما جانب الصواب مطلقًا،  فضلًا عن أن اتخاذ الوفاة فرصة لكيل الاتهامات ليس عملًا أخلاقيًا أو مقبولًا بالنظر إلى قدسية الموت، وظروفه، وما يمثله مقتل أول رئيس شرعي في الضمير الحي لكل فرد مؤمن بمبادئ الثورات السامية، وليس متشدقًا بها فحسب. كما أن النقد الفكري لأي جماعة أو حزب أو مؤسسة لا يمكن أن يكون بالتشفي واستغلال المآسي، بل باستناده إلى منطق واضح وحقائق واقعية منصفة.

لقد كان الربيع العربي فرصة جديدة لشعوب المنطقة، للنهوض من ركام الاستبداد والإقصاء، وأمانة ثقيلة ربما فشلوا في حملها طويلًا كما الأمر في مصر، وكان فرصة جديدة لبعض المثقفين ليثبتوا فاعليتهم وأثرهم الإيجابي في دفع عجلة الثورات ورص الصفوف بحصافة الكلمة وسداد الموقف والرأي، وهو ما عجز عنه كثيرون... والشواهد عليهم تدينهم أكثر مما تقف معهم، وليس آخرها عندما اختار بعضهم الحديث بجهل واضح عن محمد مرسي الذي أتى استشهاده فرصة أخرى لتنقية مبادئهم فإذا بها تُسقِط أخلاقياتهم السياسية والفكرية وتَرمي بهم غير آسفة بعيدًا... على طريق البؤس الفكري الأخير.

عن الكاتب

صوفيا خوجاباشي

كاتبة وصحفية تركية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس