إبراهيم قاراغول - يني شفق

الذي استعاد قواه بعض الشيء في معاهدة لوزان وما أعقب ذلك من تاريخ "مجمَّد" كالقرن العشرين!

لقد مزقت الدولة العثمانية، مزقت المنطقة، مزقت الأمة الإسلامية. لقد مزقت المجتمعات المسلمة القاطنة في المحور الرئيس للعالم، ذلك الحزام العريض الممتد من المغرب غربا إلى إندونيسيا شرقا، بسبب اليأس والتقصير، ولم يتركوا أي شيء يمكنه أن يجعل هذه المنطقة الشاسعة تنهض وتقاوم.

حاولوا نفينا من الأناضول بمعاهدة سيفر

وعندما فشلوا طردونا من أوروبا بمعاهدة لوزان

لقد كانوا يحاولون إخراج الشعب التركي خارج قطار التاريخ ومحوه من التاريخ السياسي للعالم وذلك بعد أن كتب التاريخ ورسم ملامح الجغرافيا لمئات السنين متخذا من الأناضول مركزا له. كما تعرض الشعب التركي للإخراج من فضاء السلطة الإقليمية والدولية، وحكم عليه بموجة انكسار كبيرة، وسجن خلف قضبان آليات تجعله دائما خاضعا للوصاية الخارجية.

لقد حاولوا نفينا من الأناضول بمعاهدة سيفر، غير أن مقاومتنا في الأناضول أفسدت هذه المسرحية، ففشلوا في الوصول لمبتغاهم. فأرادوا بعد ذلك طردنا من أوروبا، فأخرجونا منها بمعاهدة لوزان.

ذلك أنهم كانوا يعملون الجينات السياسية لهذا الشعب التي صنع بها التاريخ ورسوم بها الجغرافيا. إنهم لم يكونوا يمزقون الدولة العثمانية وحسب، بل كانوا يخططون لتدمير هذه الجينات السياسية لشعبنا وغلق الباب للأبد أمامنا للبدء من جديد.

لم تكفينا لوزان، فلم نرض بها

استطعنا الدفاع عن الأناضول

واستطعنا الدفاع عن الأناضول وحمايته، نجحنا في الصمود ههنا بعدما احتمينا بـ"القلعة الأخيرة". لم تكن معاهدة لوزان تكفينا، ولهذا لم نرض بها أبدا، لم نرض أبدا بأن نحبس داخل الأناضول.

كنا نعلم أن ذلك مسألة عقوبة واضطرار وصبر. فما كانت قوتنا وإمكانياتنا تكفي حينها إلا لذلك. ولهذا فقد صبرنا على الدوام طيلة القرن العشرين.

وأما هم فكانوا يوقعوننا في الأسر كرهائن تحت مسمى التغريب والأوروبة، وكانوا يضعوننا تحت المراقبة في كل المجالات التي تهم مجال سلطة الدولة من الناحية الوطنية.

لم يكونوا يحموننا

كانوا يسيطرون علينا

كان كل شيء عبارة عن آلة وصاية وأسْر

لقد نجحوا في تلك المهمة، لقد نجحوا في السيطرة على تركيا عن طريق ضمها لحلف الناتو وإشراكها مع الولايات المتحدة ونشر القواعد العسكرية الأمريكية في كل شبر من أراضيها ورسم ملامح مجالات سلطة الدولة ووضع اقتصادها تحت الرقابة وتحديد عناصرها السياسية وصياغة ميول سياستها الداخلية وسجنها داخل آليات الاتحاد الأوروبي وتشكيل التيارات السياسية من المحافظين وحتى الليبراليين.

كان محظورا على تركيا العودة لتاريخها وثقافتها ومنطقتها وهويتها، حظروا علينا حماية ذاكرتنا، كما نجحوا في تشكيل عقلية دولة تصبغ كل هذا بصبغة أجنبية وتعتبره تهديدا.

لم يكونوا يحموننا، بل كانوا يبسطون سيطرتهم علينا. فكل ذلك كان أدوات آلية الوصاية والأسْر. كنا نعلم ذلك، لكن لم تكن لدينا القدرة على مقاومة كل هذه الأشياء طوال القرن العشرين.

ما كنا لنسمح لهم بتدمير وطننا وقلعتنا الداخلية الأناضول

كنا نعلم ماذا يعني ذلك، لكن ضعف قوتنا وأسْرنا ذهنيا لم يسمحان لنا بالبحث عن طريق للنجاة. وكنا نحاول أن نمنع الانهيار للمرة الثانية.

لم نكن نريد نسخة ثانية من معاهدة سيفر، وما كان لنا أن نخسر وطننا في الأناضول أو نسمح لهم بأن يدمروا كذلك قلعتنا الداخلية. فهذا ما كانوا يريدون فعله، كنا نعلم ذلك. كنا نعلم أيضا أنهم كانوا يحاولون الوصول إلى هدفهم هذا بضربنا عن طريق الإرهاب منذ أربعة عقود.

لجأنا إلى الصبر مجددا وتحينا الفرصة على أمل أن يفتح لنا تبدل موازين القوى العالمية المجال أمامنا. انتظرنا حتى يتغير التاريخ وتتحرك تلك الجينات السياسية مجددا. كنا ننتظر لإيماننا بأن ذلك سيتحقق.

لن نسمح بعد اليوم بأن يأمرنا أحد

لقد حان ذلك الوقت، حان الآن. لقد كان ذلك الوقت الذي تنتهي فيه السيطرة الغربية أحادية الجانب التي استمرت لمئات السنين لتظهر قوى جديدة على الساحة وتتغير فيه خريطة القوى العالمية وتظهر فيه فراغات القوى. إنه اليوم.

لقد انتعشت ذاكرتنا وانتعش انتماؤنا للمنطقة، كما انتعشت هويتنا السياسية والثقافية، وبدأت آليات الوصاية تنكسر شيئا فشيئا. كنا نعود إلى منطقتنا وأنفسنا وقوتنا وطموحاتنا.

لم نعادي أحدا ولم ندخل في صراعات، بل كان لدينا ما نقوله لأنفسنا ومنطقتنا والعالم كله. لم نرغب بشيء سوى أننا أردنا أن نكون أنفسنا، لم نكن نريد أن نكون دولة وشعبا رهينة بيد آخرين. لم نستطع، وما كان لنا، أن نتحمل أن يأمرنا أحد ويملي علينا نصائحه وأوامره.

الصعود من جديد من الأناضول:

لن يستطيعوا مواصلة هذه المسرحية بعد اليوم

ولقد كنا شعبا صبورا لدرجة أننا سكتنا وصمتنا ولم نبك وحافظنا على شرفنا وكبريائنا وقت انهيار الإمبراطورية العثمانية وتمزيق المنطقة وتعرض مئات الآلاف من أبناء شعبنا لمجازر في البلقان وتنفيذ أفظع السيناريوهات في الأناضول. لم وما كان لنا أن نحيا أبدا برحمة أحد أو شفقته أو تفضله علينا.

واليوم نتحرك بالشرف والكبرياء ذاته في وقت يتغير فيه مجرى التاريخ وتتحرك فيه تلك الجينات السياسية ويبدأ عهد صعود جديد من خلال الأناضول. وربما تتساءلون لماذا لا يساندنا أحد من أولئك الذين عهدناهم أصدقاء؟ ولماذا يتخلون عن تركيا ليتركوها وحدها؟

ألا نرى العداوة والكراهية التي تحملها التحالفات التي انضممنا إليها وقد بقي بضع سنين على نهاية صبر المائة عام؟ ذلك أن الذين رغبوا في نفينا من الأناضول بمعاهدة سيفر وحبسنا داخل الأناضول بمعاهدة لوزان بعد ذلك لا ولن يستطيعوا مواصلة هذه المسرحية بعد اليوم.

اليوم نحن أمام تصفية حسابات الأشخاص والملفات ذاتها التي كانت على الطاولة في سيفر

لقد فشلوا في نفينا من الأناضول، وكذلك سيفشلون في حبسنا داخل أراضيه. كما لن يستطيعوا السيطرة على شعبنا أو دولتنا. ذلك أن كل السيناريوهات التي تستهدف "إيقاف تركيا" فشلت وستفشل الواحد تلو الآخر.

واليوم نحن أمام القوى ذاتها وممثليها أنفسهم الذين كانوا يجلسون أمامنا على طاولة مفاوضات سيفر. كما أن القوى التي وصلت حتى حدود الأناضول قبل مائة عام وصلت اليوم كذلك إلى الحدود عينها. وهم أنفسهم الذين جاؤوا من ناحية بحر إيجة وشرق الأناضول وسوريا والعراق لم يتغيروا أبدا.

فاليوم أمامنا تصفية الحسابات والملفات نفسها التي كانت مطروحة على الطاولة قبل قرن من الزمان. وإنهم يحاولون اليوم كذلك تنفيذ التدخل ذاته الذي سعوا لتنفيذه في منطقتنا قبل مائة عام.

نسخ جديدة من "15 تموز" على طاولاتهم

الجبهات والمتواطئون داخليا لا يتغيرون

إنهم يتعاونون اليوم أيضا مع الأشخاص والتيارات نفسها التي تعانوا معها قبل مائة عام في المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والمدنية، فهم يتعاونون مع المنتسبين إلى هذه التيارات عينها.

وإن من كان يقاوم من أجل هذا الوطن وهذه الأرض قبل مائة عام، هم أنفسهم الذين يقاومون اليوم. وإننا اليوم نواجه على الجانب الآخر من الجبهة الأشخاص والتيارات نفسها التي تعاونت مع الإنجليز ضدنا في العالم العربي وأشعلت فتيل التمردات في الأناضول قبل قرن.

لا شك أن ما حدث ليلة 15 تموز هو مخطط واحد من مخططاتهم، فلديهم نسخ أخرى من 15 تموز. فنحن أمام "جبهة داخلية" للقوة والتحالف والملفات التي طرحوها على الطاولة.

لقد انتهت مسرحيتهم

وأما نحن فلا نزال في البداية...

وإننا نراه اليوم أكثر وضوحا؛ إذ نرى كيف ظهر على الساحة من يرغبون في الإمساك بتركيا من عباءتها من أجل جرها نحو القاع.

لكننا لن ننسى أبدا أن طموحات هذا الوطن ترجع لمئات السنين، ولن يكون بعد اليوم هناك أي حساب أقوى من هذه الطموحات. نحن لا نسعى لنتصارع مع أحد، بل نحاول أن نأخذ مكانتنا التي نستحقها على مستوى السلطة العالمية، ذلك أننا نسير نحو المكان المخصص لنا بين صفوف أفراد أسرة الإنسانية.

لقد بدأوا مسرحيتهم، وبدأنا مسرحيتنا. لكن في الوقت الذي انتهت فيه مسرحيتهم، فإننا لا نزال في البداية!

عن الكاتب

إبراهيم قاراغول

كاتب تركي - رئيس تحرير صحيفة يني شفق


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس