د. سمير صالحة - العربي الجديد

بعد عشرين ساعة من المفاوضات التركية الأميركية بشأن شرق الفرات والمنطقة الآمنة في سورية، أعلن عن بيان مشترك في حدود خمسة أسطر، يقول شيئا ما، لكنه يفتح الأبواب أمام تكهنات وسيناريوهات واحتمالات لا تبدّد سوداوية المشهد في مستقبل الخريطة السياسية والدستورية لسورية الجديدة. 

كانت أنقرة تتحدث عن مخاوفها الأمنية في مناطق الحدود التركية السورية. تفاهمت مع روسيا وإيران على عملياتها في شمال غرب سورية، لكن مخاوفها في الشرق لم تتبدّد. هي تريد من واشنطن تنفيذ اتفاقية منبج، والإسراع في إنشاء المنطقة الآمنة، وقطع علاقاتها بوحدات حماية الشعب، وكشف البيت الأبيض عن خطته وأهدافه في سورية. لكن المفاجأة كانت عندما حدثنا وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، في أعقاب اتفاقية أنقرة عن "الهواجس الأمنية المشتركة للطرفين"، فما هي المخاوف التي تقلق واشنطن في شرق سورية؟ وهل العملية العسكرية التركية التي تتحدّث عنها أنقرة في شرق الفرات هي من أجلت تثبيت المنطقة الآمنة أم لإبعاد مجموعات حماية الشعب عن المناطق الحدودية، أم هي من أجلت تفتيت هذه الوحدات والقضاء عليها؟

تريد القيادات الكردية السورية في شرق الفرات أكثر من ضمانة: أن تلتقي التسميات والمصطلحات كلها عند الحالة الجغرافية والسياسية لشرق الفرات، وبناء خط الفصل بين القوات، بحماية ورعاية أميركية دولية، يتحول تدريجيا إلى خط عازل، يوفر لها الحماية الدستورية في سورية الجديدة. وهي تريد توسيع رقعة المنطقة الآمنة، لتشمل مثلث الحدود التركية السورية العراقية، حيث نهر دجلة، إلى جانب محاولةٍ لتكريس نفوذها على مسار الفرات في سورية أيضا، في محاولة للسيطرة على مجرى النهرين. وتطالب واشنطن بأن تحاور أنقرة أمام الطاولة، لكنها تريد أمام طاولة أخرى انتزاع ما يكفي من تطميناتٍ أنها لن تكون الضحية. 

هل هناك تعهدات أميركية قدمت لأنقرة في إطار التفاهمات الكبرى، تشمل إنهاء الأيديولوجيا الحالية والطروحات السياسية لحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي السوري)، تمهيدا لقطععلاقته بحزب العمال الكردستاني؟ هل ما تبحث عنه واشنطن هو إيجاد صيغة اتصال وتواصل بين حلفائها المحليين في شرق الفرات والإقليميين في أنقرة؟ كيف ستثق أنقرة باتفاقيتها مع واشنطن والبنتاغون، فيما يدعو الكونغرس الأميركي، في تقرير له، إلى إقرار زيادة الدعم لوحدات حماية الشعب في شرق الفرات، ماديا ولوجستيا وسياسيا؟ توقيت إرسال البنتاغون حوالي ثلاثمائة شاحنة محملة بالسلاح والعتاد، لحظة جلوس وفدها العسكري لمفاوضة الأتراك قبل أسبوعين، قد يحمل الإجابة على كل هذه التساؤلات. 

منطقة آمنة تتحول إلى منطقة عازلة، وإلى منطقة فصل بين الوجود والنفوذ التركي الكردي. الأمور أكثر تشابكا وأشد تعقيدا من أنتحسم في مشروع إنشاء منطقة آمنة حدودية فقط. بقدرة قادر انبعثت مجموعات "داعش" مجدّدا في شرق سورية، عندما تساءلت أنقرة عن أسباب استمرار شحن السلاح والعتاد إلى قوات سوريا الديمقراطية (قسد). 

منطقة آمنة في شرق الفرات من دون رضى موسكو وقبولها قد تعقّد مسار العلاقات التركية الروسية، وربما تقود إلى تفجير كل التفاهمات في غربه. هل تحريك قوات النظام في إدلب وجنوب حماة والتقدم نحو خان شيخون يندرج في إطار ردة الفعل الروسية على الاتفاقيات التركية الأميركية، والتلويح باحتمالات ارتداداتها على التنسيق الروسي التركي؟ 

التحقت الولايات المتحدة متأخرة جدا بالملف السوري، وحيث كانت الدول الضامنة تقود الأمور على الجبهات، بإشراف المايسترو الروسي الذي يوزع النوتات على العازفين المشاركين والمتعاونين معه. وكانت واشنطن قد قرّرت، قبل عامين، تأسيس جوقتها الغنائية الخاصة بها، بالتعاون والتنسيق مع لاعبين محليين وإقليميين، يقفون في الطرف المقابل لفريق العزف الروسي. كانت الخطوة الأولى إلحاق الوحدات الكردية في شرق الفرات وبعض القبائل العربية بفلكها السياسي والأمني في سورية. بعد ذلك، حاولت، في شهر يونيو/ حزيران 2018، استرضاء أنقرة عبر اتفاقية منبج، وإطلاق يد القوات التركية هناك، من خلال سحب القوات المحلية التي تدعمها، لكنها تراجعت عن تنفيذ الاتفاق. وكانت مفاجأة الإدارة الأميركية الأخرى مع إعلان الرئيس ترامب قرار سحب الجنود من سورية، بالتفاهم مع الأتراك الذين سيأخذون ما يريدونه في شرق الفرات، لكن الكونغرس والبنتاغون خيبا آمال أنقرة مرة أخرى. وأبدت إدارة البيت الأبيض نجاحا مميزا في إدارة الملف السوري، شئنا أم أبينا. لا يمكن، بعد الآن، إنجاز العمل الاستعراضي الكبير في سورية، من دون جلوس الكورس الأميركي وفريق العزف الروسي جنبا إلى جنب.

إخلاء المنطقة الحدودية من المسلحين الأكراد، بعد تسليمهم أسلحتهم الثقيلة وتدمير الأنفاق والتحصينات والمواقع التابعة للفصائل الكردية داخل المربع الأول للمنطقة الآمنة، هو المؤشر على فرص تنفيذ الاتفاقات. ولكن تساؤلات كثيرة تنتظر إجابات أيضا: متى تكون ساعة الصفر في تنفيذ الاتفاقات، وما هي صلاحيات مركز التنسيق المشترك وآلية عمله، وشكل اتخاذه القرارات وتطبيقها؟ وما هو مصير مجموعات مجلس سوريا الديمقراطية (مسد) و"وحدات حماية الشعب" خارج المنطقة الآمنة؟ وكيف ستحسم مسألة إدارة المدن السورية الحدودية الملاصقة لتركيا، مثل تل أبيض وكوباني والدرباسية والقامشلي ومنبج؟ وما هي الصيغة القانونية لوجود القوات التركية والأميركية في العمق السوري؟ وكيف ستتعامل واشنطن وأنقرة مع أي تصعيد روسي أو إيراني أو للنظام في دمشق ضد هذه التفاهمات والتحرّك لإفشالها؟ 

لن يفوت أنقرة حتما تقرير وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) وتوصياتها للكونغرس بضرورة فتح الطريق أمام زيادة الدعم لوحدات "قسد"، ورفع عدد مقاتليها وتأمين الحصانة السياسية الكاملة لهم في شرق سورية. وهي لا تريد منح واشنطن فرصة تحويل الاتفاق إلى حبر على ورق، كما حدث قبل عامين في موضوع منبج. 

احتمالات نجاح الخطة الأميركية التركية ضئيل جدا، ليس لأنها غير مقنعة للطرفين فقط بسبب صعوبة تنفيذها، بل نتيجة مواقف الأطراف المحلية والإقليمية، وتعارض مصالحها مع تفاهم من هذا النوع. تقول أنقرة إن الأصابع ستبقى على الزناد والقوات التركية ستظل في حالة استنفار وتأهب على الحدود مدة طويلة، ريثما تبدأ عملية التنفيذ. في الطرف المقابل، لا تريد مجموعات "قسد" مغادرة المتاريس والخنادق، ريثما تعرف ما الذي سيحل بها، لأن النظام في دمشق قد لا يغفر لها ما فعلته، فهو يحمّلها مسؤولية إيصال الأمور إلى اتفاقية أنقرة، والتسبّب في قرار تأسيس المنطقة الآمنة. وقد تكون المفاجأة الأكبر لدمشق إذا ما قرّرت موسكو الانضمام إلى هذا الحراك التركي الأميركي، وهو مطلبٌ أصرّت عليه هي دائما. 

قالت المدرسة لطلابها: من يجيب على سؤالي التالي سيغادر الصف باكرا إلى منزله. فرمى علي حقيبته من النافذة إلى الحديقة. غضبت المعلمة، وسألت عمّن فعل ذلك. قال علي: أنا.. وهو يغادر الصف. الأمور لا تسير دائما كما نريد.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس