محمود عثمان - الأناضول

ما إن أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن انطلاق عملية "نبع السلام" في شمال سوريا، لتطهيرها من تنظيمي "بي كا كا/ ي ب ك" و "داعش" الإرهابيين، وإنشاء منطقة آمنة لعودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، حتى بدأت ردود الأفعال الرافضة والمستنكرة والمحذرة والمهددة، تتوالى.

تلك الردود توالت من خلال تصريحات وتغريدات وبيانات رسمية وغير رسمية، صادرة عن دول وهيئات ومنظمات دولية، ابتداء من تل أبيب وليس انتهاء بجامعة الدول العربية.

لكن ردود الفعل الأعلى صوتا، والأشد احتجاجا، صدرت من العواصم الأوربية، مما دفع الرئيس التركي للرد عليها، بسلسلة تصريحات شديدة اللهجة، قائلاً "سؤالنا واضح جداً لحلفائنا، افصحوا لنا: هل تعتبرون تنظيم بي كا كا/ ي ب ك الذي تحاولون التستر عليه تحت اسم قسد، تنظيما إرهابيا أم لا؟".

وأضاف أردوغان أن بلاده وجهت "كل التحذيرات إلى محاورينا حول شرق الفرات.. لقد كنا صبورين بما فيه الكفاية، ورأينا أن الدوريات البرية والجوية (المشتركة) مجرد كلام".

** أهداف عملية نبع السلام

ثمة أهداف تسعى تركيا لتحقيقها من خلال عمليتها العسكرية الأخيرة في منطقة شرق الفرات تحت مسمى "نبع السلام"، وهي العملية العسكرية الثالثة من نوعها لتركيا في سوريا منذ عام 2016.

أولاً: حماية الأمن الاستراتيجي لتركيا، بإبعاد ميليشيات "بي كا كا/ ي ب ك" التي تعتبرها أنقرة خطراً وجوديا يهدد أمنها ووحدة أراضيها.

ثانيا : دعم الانتصارات المتتالية التي يحققها الجيش وقوات الأمن التركية، ضد تنظيم "ب كا كا" الارهابي داخل تركيا، بهزيمته خارج الحدود التركية، مما يسرع في هزيمته عسكريا.

ثالثا : معالجة مسألة اللجوء السوري. فقد أصبحت آثاره السلبية تطفو على السطح، وباتت ضريبته السياسية ترهق كاهل الحكومة والحزب الحاكم، حيث أشارت استطلاعات الرأي أن مسألة اللاجئين السوريين كانت أحد العوامل الأساسية في خسارة بن علي يلدرم رئاسة بلدية اسطنبول. فأضحى اتخاذ خطوات عملية بهذا الخصوص، أمرا لا مناص منه، ولا بد من تحرك يقنع الرأي العام بهذا الخصوص.

رابعا: إنشاء منطقة آمنة داخل سوريا، يمكن فيها توطين مليوني لاجئ سوري تستضيفهم في الوقت الراهن، لتسهيل عودتهم اختياريا.

** انقسام حاد داخل الادارة الأمريكية حول عملية نبع السلام

ربما لم يشهد تاريخ أمريكا خلافا وانقساما داخل الإدارة الأمريكية، كالذي يشهده هذه الأيام حول سحب/ انسحاب القوات الأمريكية من سوريا، فقد سبب قرار ترامب المفاجئ، في سبتمبر / كانون أول 2018، سحب قوات بلاده من سوريا أزمة سياسية حتى داخل إدارته، أدت إلى استقالة وزير الدفاع السابق جيمس ماتيس، وعزل/ استقالة قيادات كبيرة في مركز قيادة "سنتكوم" مثل ماك غورك وغيره.

وقد تأجج الخلاف مجددا بين الطرفين، البيت الأبيض والبنتاغون، عقب المكالمة الهاتفية بين الرئيسين أردوغان و ترامب، والتي أعطت الضوء الأخضر لتركيا من أجل القيام بعملية عسكرية في شمال سوريا، أطلقت عليها اسم "نبع السلام" .

ولا تزال ارتدادات هذا الانقسام تنعكس بقوة على تصريحات مسؤولي البنتاغون، بعد أن مني حلفاؤهم في مليشيات "بي كا كا/ ي ب ك" بهزيمة منكرة في ساحة المعركة، حيث سرعان ما لاذوا بالفرار أمام جحافل الجيش التركي والجيش الوطني السوري، دون مقاومة تذكر رغم الأسلحة الحديثة المتطورة التي زودهم بها الأمريكان.

** تهديدات ترامب

عقب انطلاق عملية نبع السلام، لم يتأخر ترامب في إطلاق تهديداته لتركيا، فقد حذر الرئيس أردوغان من "مشكلة كبيرة" إذا تعرض أي جندي أمريكي للأذى، مهددا تركيا بأنها إذا قامت بأي تجاوز، فستواجه "عاقبة اقتصاد متهالك للغاية".

لا شك في أن تصريحات ترامب موجهة للرأي العام الداخلي الأمريكي، بهدف إسكات المنتقدين، خصوصا أولئك الذين وصفوه بالضعيف والعاجز أمام الرئيس التركي أردوغان، لذلك أعقب تهديداته لتركيا بتصريحات محبطة ومهينة لميليشيات "بي كا كا/ ي ب ك"، من ذلك قوله بأنهم قاتلوا معنا، لكننا دفعنا لهم أموالا، وأعطيناهم سلاحا بكميات كبيرة.

** الموقف الروسي غامض

يحاول الطرف الروسي إمساك العصا من المنتصف، فتارة يطلق المسؤولون الروس تصريحات يدعمون فيها حق تركيا في الدفاع عن نفسها، وتارة يستنكرون عملية نبع السلام ويعتبرونها مهددة لوحدة الأراضي السورية.

لكن على ما يبدو هناك اتفاق، بدأت إرهاصاته تلوح في الأفق، بين واشنطن وموسكو يعطي الأخيرة حرية التصرف المطلق بالقضية السورية، أي أن سوريا أصبحت منطقة نفوذ من حصة روسيا، وهذا ما تريده وتسعى إليه موسكو منذ تدخلها العسكري عام 2015.

صحيفة "نيوز ويك " الأمريكية نشرت مقالاً بعنوان : (هكذا سلمت الولايات المتحدة منبج إلى روسيا) تحدثت فيه عن تعمد الولايات المتحدة إبطاء الانسحاب من منبج، من أجل السماح للروس بترتيب أمورهم فيها.

** إيران تعارض "العملية العسكرية"

إيران من جانبها تعارض عملية نبع السلام، فقد أبلغ وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف نظيره التركي مولود تشاووش أوغلو، أن طهران "تعارض" عملية عسكرية في سوريا، وحضه "على احترام وحدة أراضي سوريا وسيادتها الوطنية"، مشدداً على "ضرورة مكافحة الإرهاب وإحلال الاستقرار والأمن في سوريا".

** ردود فعل قوية من دول الاتحاد الأوربي ضد عملية نبع السلام

تبدو أوروبا قلقة جدا على مصير تنظيم استثمرت فيه منذ عقود، فقد تأسست/ أسست منظومة "ب كا كا" الإرهابية، بمختلف مؤسساتها وأحزابها ومسمياتها وتشكيلاتها وفروعها، في أحضان المخابرات الأوربية، من أجل تحقيق هدف واحد، هو فرملة وإعاقة وشل جميع محاولات تركيا، للانطلاق والتقدم والتطور، والتحول إلى دولة مدنية ديمقراطية حديثة، واللحاق بركب الدول القوية الأكثر تطورا وتأثيرا في الساحة الدولية.

وإلا كيف نفسر، دعم الدول الأوربية الرأسمالية التي خاضت حروبا ساخنة وحروبا باردة ضد الشيوعية وأنظمتها، لحزب شيوعي ماركسي يحمل السلاح من أجل مبادئ الشيوعية ؟!.

وكيف نفسر، ترجيح الدول الغربية التعامل من تنظيمات مليشياوية تصنفها هي بالإرهابية، على حساب التعامل مع شريك وحليف في حلف الناتو، ودولة مؤهلة للدخول في الاتحاد الأوربي ؟!.

التعاطي الأوربي يضع جانبا جميع الحسابات المادية والعقلانية والمنطقية، ولا يبقي لنا سوى القناعة بأن رواسب العقلية الصليبية ما زالت راسخة في أذهان بعض الساسة الأوربيين.

هذا هو السبب الأساس، لكن ذلك لا ينفي وجود أسباب إضافية أخرى لمعارضة الأوربيين لعملية نبع السلام. من ذلك تخوفهم من تدفق موجات من اللاجئين نحو بلادهم، وعودة مسألة إعادة مواطنيهم المنتمين لتنظيم "داعش" والمسجونين حاليا في سوريا.

** رد فعل الجامعة العربية على عملية نبع السلام

في مشهد يبعث على الدهشة والغرابة، نددت الجامعة العربية بما أسمته "عدوانا تركيا" على الأراضي السورية !..

الجامعة العربية التي عجزت فعل أي شيء، لا في سوريا ولا في ليبيا ولا في اليمن، ولا في غيرها من البلاد العربية.

الجامعة العربية التي لم تحرك ساكنا ضد التدخل العسكري الروسي، وصمتت على التدخل الايراني بأبعاده الخطيرة على مستقبل عروبة سوريا وتركيبتها الديمغرافية.

الجامعة العربية المبعثرة الضعيفة، والعاجزة أمام إيران التي تحتل أربع جزر إماراتية، وأربع عواصم عربية.
الجامعة العربية، التي غابت عن دنيا المواطن العربي منذ أمد بعيد، تستنكر قيام تركيا، التي تحتضن ما يزيد عن خمسة ملايين لاجئ عربي، بالدفاع عن أمنها الاستراتيجي، وحماية مواطنيها بتطبيق اتفاقية أضنة، مما يتوافق من القانون الدولي !.

خاتمة

ما من شك في أن عملية نبع السلام، سوف تعيد ترسيم خريطة الصراع السوري من جديد. من أجل ذلك ستتعرض تركيا إلى كم هائل من التهديد والوعيد والابتزاز من أجل ثنيها عن عملية نبع السلام، لما تمثله هذه العملية من أهمية استراتيجية.

وفد أمريكي رفيع المستوى يقوده نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس، ووزير الخارجية مايك بومبيو، و روبرت أوبراين مستشار الأمن القومي، وجيمس جيفري المبعوث الأمريكي الى سوريا، في طريقه لأنقرة من أجل بحث عملية نبع السلام.

تركيا التي لم تنحن أمام التهديدات والحصار الدولي عام 1974، أثناء عملية السلام في قبرص، رغم قلة ذات اليد في تلك الأيام، لن تنحني اليوم ولن تضعف، وقد أصبحت تعتمد على تصنيعها الحربي بنسبة تفوق 70%، والأهم من ذلك وحدة الصف الداخلي، ووقوف عموم الشعب التركي خلف حكومته وجيشه دعما لعملية نبع السلام.

رغم الاعتراضات عليها من جهات كثيرة، فإن عملية نبع السلام تقدم للمجتمع الدولي، كما صرح الرئيس أردوغان، فرصة جيدة لإنهاء الحروب بالوكالة في سوريا، ومن شأنها حال توفر الإرادة الدولية، أن تفتح الأبواب لمرحلة إحلال السلام والاستقرار في المنطقة.

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس