محمود عثمان - الأناضول

شكلت عملية "نبع السلام"، والانسحاب الأمريكي المفاجئ، ثم الاتفاق التركي ـ الروسي، منعطفا مهما في مسار القضية السورية، وفتحت الباب أمام تسوية سياسية شاملة ربما تتجاوز الأطراف السورية في المعادلة، وتكون لها انعكاساتها على مستوى الشرق الأوسط.

شهدنا في الأيام الأخيرة تفاهمات تركية ـ أمريكية ـ روسية، ما زالت تفصيلاتها غير واضحة المعالم، أفضت إلى حصول روسيا على الحصة الأوسع من النفوذ في سوريا، بعد أن قررت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، إعادة التموضع وإلقاء العبء الميداني والسياسي على محور أستانة، مقابل تراجع التأثير الأوروبي، وانحسار الدور العربي.

وقد جاءت عملية اغتيال زعيم تنظيم "داعش" أبو بكر البغدادي، في قرية باريشا بريف إدلب، إحدى ثمار تلك التفاهمات، ومؤشرا رمزيا لقرار ترامب، طيّ صفحة التدخل الأمريكي في سوريا، وبداية مقاربة أمريكية جديدة مع جنود أقل، وتحويل تركيز واشنطن إلى حماية حقول النفط في دير الزور والحسكة ضمن ترتيبات سياسية.

وعلى الرغم من دور الأطراف المحلية السورية في الصراع، إلا أنها قد تكون أهم ضحايا التفاهمات التي بُنيت بين دول النفوذ، على مصالح تلك الدول وأولوياتها.

فبينما دفعت قوات "قسد" التي اتكأت على الولايات المتحدة، الثمن الأكبر في وقت كانت تعتقد فيه أنها باتت رقما صعبا بالمعادلة السورية، فقد تم تحجيمها على نحو أدى لتحويلها إلى مؤثر محدود يخضع على نحو كامل لتفاهمات الدول، ولم تجد أمامها من سبيل سوى العودة إلى التفاهم مع نظام الأسد من البوابة الروسية.

** الفواعل الأساسية في تغيير المشهد الميداني والسياسي

ثمة مجموعة من الفواعل الرئيسية ساهمت إلى حد كبير في إعادة تشكيل المشهد الداخلي في سورية

أولا: الخلافات داخل الولايات المتحدة، سواء بين إدارة ترامب والديمقراطيين التي تتخذ أشكالا عديدة، يتمركز جزء منها حول إدارة الملف السوري والعلاقة مع روسيا، أو التباين الظاهر بين البيت الأبيض والبنتاغون بشأن العلاقة مع تركيا، وكيفية معالجة ملف الانسحاب من سورية، والذي يبدو أن ترامب يسعى إلى توظيفه كأحد الأوراق المهمة في حملته الانتخابية القادمة.

وقد أدت النزاعات في واشنطن إلى إجهاض التفاهم الأمريكي ـ التركي في يونيو/ حزيران 2018، بشأن تشكيل هيئة مشتركة بينهما تتولى إدارة مدينة منبج، كما حالت دون إنفاذ اتفاق المنطقة الآمنة شرق سورية في سبتمبر/ أيلول 2019.

وهو ما يضع علامة استفهام حول السلوك الأمريكي الذي أجهض التعاون مع تركيا، على حساب التحالف مع إرهابيي "ي ب ك/ بي كا كا، في وقت عمدت فيه واشنطن إلى انسحاب غير منظم أضر بصورة الولايات المتحدة عسكريا، وقوض ثقـة حلفائها بها.

فيما بدت إدارة ترامب بمستوى كبير من عدم التوازن، فبينما هددت تركيا بعقوبات صارمة، وشرعت في تطبيق جزء منها، وحرضت حلفاءها في المنطقة والعالم على التنديد بعملية "نبع السلام"، وتهديد أنقرة بإجراءات رادعة، تحولت فجأة إلى حالة معاكسة بانسحابها المفاجئ من مناطق لم تكن مشمولة بالتدخل العسكري التركي، ثم الترحيب بالاتفاق التركي ـ الروسي، وصولا إلى اعتبار ترامب أن المشهد الأخير برُمته كان نتيجة لما اتخذته إدارته من إجراءات.

ثانيا: هواجس تركيا حول أمنها القومي وشكوكها في نوايا واشنطن

الدافع الأول لأنقرة للقيام بعملية "نبع السلام"، هواجسها حول أمنها القومي، وشكوكها بشأن نوايا واشنطن حول هندسة النفوذ في الشرق الأوسط، حيث كانت تشترط قبل أي تسوية سياسية في سورية، بما فيها قضية إدلب والتنظيمات المتطرفة فيها، أن تتم معالجة مسألة مليشيا "ب ي د" الإرهابية والتشكيلات التابعة لها، بشكل جذري، كونها مصدر خطر كبيرا على تركيا وسورية معا.

رغم التحذيرات التركية المستمرة، في مختلف الأصعدة وعلى أعلى المستويات، إلا أن واشنطن لم تظهر تفهما لهواجس أنقرة الأمنية، وهي الحليفة التاريخية لها، والشريكة معها في حلف شمال الأطلسي "ناتو"، ما اضطرهما إلى اشتباك سياسي بدا أقرب إلى حافة الهاوية، وكادت العلاقات تدخل منعرجا خطيرا، شجع قوى عديدة للمراهنة على ذلك.

في المقابل، أبدت موسكو استعدادها للتعاون مع تركيا وتوفير الأمان المطلوب على حدودها، بما فيها منع النظام من مد يد العون لـ "ب ي د" عسكريا، وإرغام المليشيا على التراجع مسافة تزيد على 30 كم عن الحدود، وفق مطالب أنقرة، وتحميل قيادة "قسد" مسؤولية العواقب في حال إخلالها بأي التزام نص عليه الاتفاق التركي ـ الروسي في سوتشي.

ويفسر ذلك تشدد أنقرة مع واشنطن في ظل حالة عدم الثقة، والليونة النسبية التي أبدتها مع موسكو، رغم القلق من نوايا الأخيرة، بما فيها السعي إلى بسط نفوذها كاملا في سورية، ما يعني في نهاية المطاف الهيمنة على الأطراف المحلية، وإخراج بقية اللاعبين من المشهد، بما في ذلك تركيا وإيران.

ثالثا: أوروبا تدرك خطأ ابتعادها عن المنطقة

أدرك الأوروبيون خطأ اعتمادهم كاملا على واشنطن في سوريا، وعدم بناء سياسة مستقلة تراعي مصالح أوروبا في المنطقة، وقد تجلى ذلك في اختيار محور ألمانيا ـ فرنسا التصادم مع أنقرة وتهديدها بالعقوبات، والمراهنة على تنظيمات مثل "ب ي د" الإرهابي وتشكيلاته للعب دور في القضية السورية، ثم التراجع عن ذلك إثر التغير في الموقف الأمريكي.

وتمثل تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، حالة الاضطراب والغضب التي تكتنف أوروبا، إذ دعا إلى توقف أوروبا عن التصرف كحليف أصغر للولايات المتحدة، وأن العملية العسكرية التركية وما تلاها "خطأ جسيم من الغرب وحلف الأطلسي".

وقال ماكرون "كنت أعتقد أننا في حلف شمال الأطلسي، وأن الولايات المتحدة وتركيا في الحلف، ثم اكتشفت من تغريدة أن الولايات المتحدة قررت سحب قواتها لتمهيد الطريق (للعملية التركية)"، وخلص إلى القول "ما يمكنني ملاحظته هو أن من خرجوا رابحين وفق قانون الأقوى، هم تركيا وروسيا وإيران".

رابعا: الجامعة العربية.. غياب الرؤية الاستراتيجية للمشهد السوري

بدت الدول العربية الحلقة الأضعف في إدارة الأزمة، إذ في الوقت الذي انساقت فيه للتنديد بعملية "نبع السلام" التي وصفتها الجامعة العربية بـ"الغزو"، مراهنة على عزل تركيا وحصارها، فوجئت بالتغير في موقف واشنطن، ونجاح أنقرة في بناء تفاهمات مع الولايات المتحدة وروسيا، وتحقيقها مكاسب على الأرض، وإبعاد الخطر الذي يهدد أمنها القومي، مما عكس ذلك ضعف التقدير الاستراتيجي لدى غالبية المنظومة العربية، حيث غلبت المناكفة في إدارتها للملفات الأكثر حساسية في المنطقة، مع غياب رؤية واضحة للتعامل مع الملف لسوري.

خامسا: المعارضة السورية

أما المعارضة السورية فهي الحاضر عسكريا والغائب/ المغيَّب سياسيا، والمستفيد نسبيا من التحولات الأخيرة، فتبدو حائرة بين الإقرار بتفاهمات ضامني أستانة والتعامل معها، أو الإصرار على مسار جنيـف والأمم المتحدة، والذي لم يتجاوز حتى الآن عقدة المراوحة في المكان.

وقد تجلى انقسام المعارضة السورية بشكل حاد حول "نبع السلام"، من خلال تشكيك البعض بدوافعها ونتائجها، كما تعرض "الجيش الوطني" لحملة اتهامات من شخصيات سياسية وناشطين، ما عكس حالة القلق وانحسار الثقة في الحلفاء، وتأثر الرأي العام السوري "الثوري والمعارض" بالدعاية الإعلاميـة المناوئة، في ظل تردد مؤسسات المعارضة نتيجة الضغط الأمريكي والأوروبي والعربي.

تواجه مؤسسات المعارضة حاليا تحديا في القدرة على ترميم صفوفها، وإعادة بناء أرضية وطنية متماسكة لسياساتها وتحالفاتها، وإيجاد قناعات وطنية حول جدوى المسار السياسي، وطرح برنامج عمل مشترك يخص الوضع الناشئ في شرق الفرات، ومشاركة المكونات المجتمعية فيه، والحيلولة دون إثارة نزاعات تضعف النسيج الوطني.

** سيناريوهات المشهدين الميداني والسياسي

سيلعب المحور التركي ـ الروسي ضمن ضامني أستانة، دورا مركزيا في رسم معالم المشهد السوري القادم، بما في ذلك خريطة الحل السياسي، والنتائج المرتقبة من اجتماع اللجنة الدستورية بجنيف، ويعزز ذلك القناعة بأن الولايات المتحدة سلَمت روسيا ملف النفوذ في سوريا، وفق شروط تتعلق بتركيبة النظام المقبل، وأمن إسرائيل، وطبيعة التواجد الإيراني.

وستتحمل روسيا الآن عبئا كبيرا في إنجاح المسار السياسي، بعد أن وضعتها واشنطن في صدارة المشهد من خلال انتشارها في مناطق نفوذها، وفي حال الإخفاق ستقع المسؤولية على روسيا بدرجة رئيسة، ولذا يتوقع تزايد الضغط على النظام للانخراط في أعمال اللجنة الدستورية وعدم إعاقتها.

من المرجح عودة "داعش" إلى التحرك في مناطق البادية وجزء من شرق الفرات، خصوصا بعد هروب عدد من قيادات التنظيم وعناصره من سجون "قسد" في ظروف غامضة.

الانتشار الروسي العسكري في شرق الفرات سيستخدم النظام كيافطة، وتحديدا استخدام مسمى حرس الحدود (الهجانة)، ويرجح أن تنشأ علاقة تعاون واستخدام بين روسيا و"قسد"، مع ملاحظة استعداد الأخيرة للانتقال إلى الحضن الروسي، والترحيب بدور موسكو في الاتفاق الأخير، نظرا لإبقاء مدن منبج وتل رفعت وعين العرب تحت سيطرة روسيا، وليس تركيا.

الوجود العسكري الأمريكي سيبقى في منطقة التنف الحدودية، وفي محيط آبار النفط في دير الزور والحسكة، مع الاحتفاظ بالسيطرة الجوية، ما يشير إلى أن التحرك الجوي الروسي سيتم بالتنسيق مع الجانب الأمريكي.

من المرجح أن تعيد أوروبا عبر القيادة الفرنسية ـ الألمانية النظر في سياستها حول سوريا، بما فيها العلاقة مع قوى المعارضة، والدعم السياسي والإنساني المقدم في مناطق سيطرة المعارضة أو شرق الفرات.

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس